ولكنهم في هذه المرة لم يلتقوا في ناديهم ذاك الذي تعودوا أن يلتقوا فيه حين يقبل الليل، وإنما التقوا في مكان لم يكن ينتظر أن يلتقوا فيه، ولا أن يذهب إليه واحد منهم، فليس فيه لهو، وليس هو مظنة للهو، وليس فيه سمر، ولا هو مظنة للسمر، ومتى لها الناس بين القبور، ومتى سمر الناس حول قبر لم تمض على إقامته إلا أسابيع قليلة؟ كيف ذهب هؤلاء النفر إلى هذا المكان الموحش في قلب الصحراء؟ وكيف التقى هؤلاء النفر حول هذا القبر الذي لم تستقر فيه صاحبته إلا منذ أمد قريب؟ هذه هي المسألة التي ألقاها كل واحد منهم على نفسه فوجد الجواب عليها سهلا يسيرا، وهم أن يفكر فيها، ويستقصي التفكير ويتعمقه، لولا أنه لم يخلق للتفكير، ولا للاستقصاء، ولا للتعمق، وإنما خلق للعبث والمجون الذي يفسد المروءة، ويذهب بنضرة الأجسام والنفوس.
فلم يكد ثالث القوم يرى صاحبيه حتى أخذه ما أخذهما من الدهش، وعراه ما عراهما من الذهول، وغشيه ما غشيهما من الوجوم، ولكنه لم يملك نفسه طويلا، وإنما هم أن يضحك، ثم استحى من الغير فولى مدبرا، وتبعه صاحباه، حتى إذا بعدوا عن هؤلاء القوم اللذين لا تزاور بينهم ولا وصل إلا أن يكون نشور كما يقول أبو نواس، تساءلوا كيف كان سعيهم إلى هذا المكان، ووقوفهم عند هذا القبر، والتقاؤهم على غير ميعاد.
وقد جعل بعضهم يكذب بعضا في شيء من الحيرة المتبلدة أو من التبلد الخائر، ولكنهم تواصفوا ما رأوا، ووازنوا بين ما سمعوا فلم يروا بدا من أن يصدق بعضهم بعضا، ولم يروا بدا من أن يعترفوا بهذا الأمر الغريب العجيب الذي كان خليقا أن يملأ قلوبهم روعا، ونفوسهم هولا، لولا أنهم تعودوا أن يجدوا في الكأس ما يغسل قلوبهم من كل روع، وينفي عن نفوسهم كل هول.
ولست أدري إلام صارت أمورهم جميعا، ولكن أعلم أن أحدهم على أقل تقدير قد أدركه ذهول يشبه الجنون، وغفلة تشبه الخبل، وألمت به علة لست أدري أيثبت لها أم يعجز عن أن يقاومها، ويجد إلى البرء منها سبيلا.
وقد تسألني أنت عن سعيهم إلى هذا المكان الموحش في الصحراء، ووقوفهم عند هذا القبر الذي لم يقم إلا منذ أمد قريب، والتقائهم على غير ميعاد بين هذه القبور حين أخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وتجرر على هذه القبور أشعة شاحبة، إن صورت شيئا فإنما تصور حزنا كأنه كان صدى يردده الجو لهذا البلى الذي كان يعمل جاهدا فيما احتوته هذه القبور.
ولست أكره أن أقص عليك مصدر هذا كله، ولكني أعتقد أنك ستدهش لما أقص إليك من حديث، فأنت وما شئت من الشك، وأنت وما أحببت من الثقة، وإنما الشيء الذي أطمئن إليه أنا كل الاطمئنان، هو أني إنما أحدثك بشيء قد وقع، وأصور لك في هذا الحديث أمرا قد كان، وكل ما أتمنى هو ألا يعرض لك مثل ما عرض لهؤلاء النفر الثلاثة الذين أفسد عليهم أمرهم ما أغرقوا فيه من عبث ولهو، وما تهالكوا عليه من إثم ومجون.
كان هذا القبر الذي التقوا عنده مستقرا لغانية حسناء رائعة الحسن، بارعة الجمال، فاتنة الظرف، ساحرة الطرف، تعودوا أن يلقوها في تلك الدار التي كانوا يأوون إليها من آخر الليل، ويستنفدون فيها ما بقي لهم من قدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاء سواء تعدل بينهم فيما تهدي إليهم من ظرفها وخفتها، ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودد الذي يغري ويطمع حتى يخيل إلى المرء أنه مشرف على الغاية، ومنته إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المهلك، والقنوط الذي يملأ القلوب لوعة وعذابا؛ فكان كل واحد من خلانها يستطيع أن يتمثل قول جميل:
ومنيتي حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
Bog aan la aqoon