وأكبر الظن أنه قد تعود هذه المجاراة والمداراة منذ طفولته الأولى، فاستجاب أبواه إلى كل ما كان يريد، وحققا له كل ما كان يبتغي، فنشأ واثقا بأن العالم قد خلق له يدعو فيجاب، ويأمر فيطاع، وبأن كلمة لا لم تخلق لتسمعها أذناه، وإنما خلقت لينطق بها لسانه، وأكبر الظن أيضا أن هذا الحظ قد رافقه في دراساته الأولى، وآية ذلك أن سيدنا لم يكد يغضب عليه ويؤذيه بعصاه مرة حتى حوله أبواه من الكتاب إلى المدارس النظامية التي لا يضرب فيها التلاميذ. وليس من شك في أن حب أبيه له ورعايته لهذا المزاج المدلل الرقيق، وحرصه على ألا يتعرض لما يكره أو أن يرد عما يريد كل ذلك قد رافقه من قريب أو بعيد فلم تصدمه التجارب القاسية، ولم تعلمه المصاعب أن ظروف الحياة يجب أن تتسلط على الناس أكثر مما يتسلط الناس عليها، وأن تؤثر في الناس أكثر مما يؤثر الناس فيها.
فأدرك الشباب على هذه الحال مؤمنا بنفسه كما يؤمن الطفل بنفسه، مغامرا كما يغامر الطفل، لا يفكر ولا يقدر، ولا يرجو لشيء وقارا، وإنما يريد فيقدم على ما يريد، والغريب أنه كان يبلغ كل ما يريد. كان يبلغ كل ما يريد؛ لأنه نشأ في أسرة موفورة لها حظ من ثراء، ونصيب من الاتصال بالأغنياء وأصحاب الجاه، فكان ثراء الأسرة، وحبها له، وعطفها عليه كل ذلك يذلل له المصاعب الخاصة، وكان اتصال الأسرة بأصحاب الجاه والغنى يذلل له المصاعب الاجتماعية التي كان يمكن أن تعترض طريقه في الحياة، وليس أدل على ذلك من أنه رأى الناس يكتبون فحاول أن يكتب، ثم أظهر أسرته على ما كتب، فأثنت عليه عن علم أو جهل، ثم أظهر من تتصل بهم أسرته على ما كتب فأثنوا عليه عن علم أو جهل. ثم رأى الناس ينشرون فهم أن ينشر كغيره من الناس، ولكن الصحف امتنعت عليه فوجد من ذوي الغنى والجاه من يتوسط له عند هذه الصحيفة أو تلك، وإذا هو يرى اسمه مطبوعا في مجلة شهرية أو أسبوعية، ثم في صحيفة سيارة متواضعة، ثم في صحيفة سيارة واسعة الانتشار، وإذا هو كاتب كغيره من الكتاب يقرأ نفسه ولا يقرؤه الناس بعد ذلك، فأما الذين يرونه ويعرفونه فيرضون ويثنون ويشجعون، وأما الذين لا يرونه ولا يعرفونه فقد يرضون وقد يسخطون، وقد يعرفون وقد ينكرون، ولكن صاحبنا لا يعلم من ذلك شيئا، ولا يعنيه أن يعلم من ذلك شيئا.
والمهم أنه لم يكد يتم الدرس حتى كان في رأي نفسه، ورأي ذوي معرفته كاتبا ممتازا، ولم يكد يعود من أوروبا حتى هجم على التأليف كما هجم من قبل على التحرير، وإذا له كتب تذاع وتباع، وإذا أيسر الثناء على فصل يحرره أو كتاب ينشره، يثير في نفسه من الرضى ما يخرجه عن طوره، وإذا أيسر النقد لفصل يحرره أو كتاب ينشره يثير في نفسه من السخط ما يخرجه عن طوره، وإذا ثقته بنفسه على نحو ما يثق الأطفال بأنفسهم تفرضه على قراء الصحف والكتب والمجلات، ثم لا تكاد الأيام تتقدم حتى تضيف الحياة إلى هذه الثقة ثقة أخرى، وإذا الأمر يستحيل في نفسه إلى الغرور الذي لا حد له في طول أو عرض أو عمق إن صح أن تكون للغرور أبعاد، فقد اتصل صاحبنا بوجوه الناس وسراتهم، واختلف إلى أنديتهم ومجالسهم، وفرض نفسه عليهم بحكم المودة والقرابة والصلات المختلفة، فأصبح واحدا منهم يشارك فيما يشاركون فيه من شئون الحياة العامة والخاصة، ويسرف على نفسه وعلى الناس في هذه المشاركة، والأيام تبسم له في أكثر الأحيان، ولا تعبس له إلا قليلا، وهي لا تعبس له مع ذلك إلا بمقدار.
وفي أحداث التطور السياسي، والاضطراب الخلقي، والانتقال الاجتماعي، وما كان من تغير القيم، واختلاف المقاييس ما يتم القصة إن كانت في حاجة إلى إتمام، ويكمل الصورة إن كانت في حاجة إلى إكمال، ولكن الشيء المحقق هو أن الحياة المستقرة الثابتة، التي تجري الأمور فيها على إذلالها، تعلم الناس أن ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، ومضاء العزيمة، والصبر على المكاره، والاحتمال للخطوب، وأخذ النفس بما يشق عليها، وتجنبها الطرق الممهدة، والأمور الميسرة هي الخصال التي تبلغ بالناس ما يسمون إليه من نجح وفوز، ولكن الحياة المنتقلة المتطورة التي لا تهدأ إلا لتثور، ولا تسكن إلا لتضطرب تعلم الناس أن الطفولة المتصلة قد ترفع أصحابها إلى مكان الأفذاذ.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة: لقد أخطأ علماء البيان حين لم يرضوا عن هذا البيت الصادق الجميل من قول الشاعر:
والعيش خير في ظلا
ل النوك ممن عاش كدا
الظلال الهائمة
لم يشعر بطرق الباب حين طرق، ولا بفتحه حين فتح، ولم يحس مكان الخادم حين أقبلت تحمل الشاي، فوضعته على المائدة عن يمينه، وألقت إليه نظرة سريعة فيها شيء من عجب، وكادت ترفع كتفيها ساخرة، لولا أملكت نفسها واستحضرت ما يجب عليها من توقير سيدها، فانصرفت متباطئة متثاقلة حتى إذا بلغت الباب فتحته في شيء قليل من العنف، وأغلقته من ورائها في شيء قليل من العنف أيضا تريد أن تنبه هذا الذي لا يتنبه لشيء؛ لأنه مغرق في قراءته. على أنها لم تكد تغلق الباب من ورائها حتى أحست شيئا من راحة الضمير، فقد أدت الواجب كاملا، حملت إلى سيدها الشاي في إبانه، وطرقت الباب، وخيل إليها أنها سمعت الإذن لها بالدخول، فدخلت وخرجت، وأتت من الحركات ما يوقظ النائم، فكيف بتنبيه الغافل أو الذاهل أو المغرق في القراءة؟ لقد أدت الواجب كاملا، فلا عليها أن يتنبه سيدها أو لا يتنبه، ولا عليها أن يشرب الشاي، وهو ساخن كما يحب أو أن يشربه، وقد أدركه الفتور أو البرد أو ألا يشربه أصلا، والواقع أن سيدها لم يتنبه لمقدمها، ولا لانصرافها، ولا للشاي الذي كان يدعوه عن يمينه، ولكنه لم يكن يسمع دعاء، ولا يجد الظمأ كما تعود أن يجده كل يوم في هذا الموعد الذي كان يقدم إليه فيه الشاي .
كان مغرقا في القراءة، ثم انتهى من الكتاب الذي كان يقرأ فيه إلى فصل لم يتجاوزه، وإنما عاد إليه فقرأه مرة ومرة، ثم كف عن القراءة، ولكنه وصل بصره في هذا الفصل الذي أعاد قراءته، وظل مطرقا ممعنا في الإطراق والتفكير، ثم رفع رأسه، وعلى ثغره ابتسامة يسيرة، ثم نظر أمامه لا يريد أن يرى شيئا، وإنما هو واجم باسم ينظر ولا يرى، ويفكر ولا يحقق شيئا، ثم تتسع ابتسامته قليلا، ثم ينفرج فمه عن ضحك يريد أن يعلو، ويملأ الغرفة لولا أنه يمسكه، ويوشك أن يرده إلى جوفه ردا؛ لأنه قد ثاب إلى نفسه فجأة، وأشفق أن يسمع ضحكه من وراء الباب، فتظن به الظنون، هنالك التفت فرأى إبريق الشاي كئيبا مستخذيا؛ لكثرة ما دعا إلى نفسه، وألح في الدعاء فلم يستجب له أحد؛ لأن دعاءه لم يبلغ أحدا.
Bog aan la aqoon