قلت لصاحبي: زهير ما هذه الظلال؟ قال ضاحكا: هي جماعة من الشياطين لم تأخذ من الفن بحظ، ولكنها خدعت عن أنفسها، وملأها الغرور، فقامت في هذا البهو مضطربة صاخبة تريد أن تقتحم على شياطين الفن ناديهم فلا تبلغ من ذلك شيئا؛ لأنها ترد عن نادي الفن ردا عنيفا: وليس اضطرابها هذا الذي ترى، وليس عجيجها هذا الذي تسمع إلا مظهرا من مظاهر الغيظ، وفنا من فنون الحنق، وضربا من ضروب الإلحاح في قرع الأبواب لعلها أن تفتح لها. قلت: وما هذا الشخص الذي يمتاز من هذه الظلال فيأبى أن يدنو منها أو أن يخلط نفسه بها، ولا يؤذن له مع ذلك في أن يتجاوز هذا البهو، فهو يتحرك وكأنه ساكن، ويسعى وكأنه واقف، وينطق وكأنه صامت، ويصخب وكأنه لا يقول شيئا؟ قال: هذا مسيلمة الشياطين، أراد أن يكون شيطانا من شياطين الفن فلم يستطع إلا أن يكون ثرثارا مكثارا مهزارا لا حظ لقلبه من غناء، ولا حظ لعقله من علم، ولا حظ لضميره من حكمة، وإنما أتيح له حظ من قدرة على الاضطراب والصخب لم يتح لغيره من هذه الظلال، فهو ينأى عنها، ولا يستطيع أن يقطع ما بينه وبينها من الأسباب، وليس من شك في أنه يمتاز منها بعض الامتياز، ولكن ليس من شك في أن ما يراه لنفسه فنا، وما يحاول أن يلقيه إلى بعض من يتكثرون عندكم بالقول لا يعدو أن يكون كما يروى من قول مسيلمة الإنس: يا ضفدع بنت ضفدع، نقي ما تنقين أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وهممت أن أتعجل صاحبي زيارة شياطين البيان، ولكن أراني في مكاني ذاك من الطريق إلى داري، وأسمع صاحبي زهيرا يقول لي في صوته النحيل الذي جعل ينأى عني شيئا فشيئا: حسبك من ليلتك هذه ما رأيت، فإن راقتك صحبتي، وشاقتك زيارة شياطين البيان، فأنشد ما كان ينشد شاعر الأندلس وكاتبها وخطيبها ابن شهيد:
وإلى زهير الحب يا عز إنه
إذا ذكرته الذاكرات أتاها
إذا جرت الأفواه يوما بذكرها
يخيل لي أني أقبل فاها
فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت
أجارع من داري هوى لهواها
ثم أطرق صاحبي لحظة، ورفع إلي رأسه، وهو يقول في صوت هادئ منكسر: صدقني يا سيدي أو لا تصدقني فإن ذلك لا يغني عن الحق شيئا، والحق الواقع الذي لا شك فيه هو أني قد رأيت وسمعت كل ما أحدثك به الآن.
قلت متضاحكا: فلا تنشد هذا الشعر مرة أخرى وأنا معك، فإني لست في حاجة إلى أن أرى شيطانك الأندلسي. قال وهو يضحك ضحكا فيه كثير من السخرية: لا بأس عليك، فقد أنسيت أن أنبئك بأنه زعم لي أنه لن يستجيب لإنشاد هذا الشعر إلا إذا كان هذا الإنشاد بعد أن يتقدم الليل.
Bog aan la aqoon