قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ قل إنها وداعة الحملان، أو قل إنه التواضع، وإن في التواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان.
قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ لكنه عندي علامة لا تخطئ على ما في نفسك من ذل العبيد، الذي يستمرئ ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب.
لست أومن بالإنسان 1
وقع لي منذ سبع سنوات كتاب، لعله أنفع ما قرأت من الكتب، لأنه غاص بي إلى قلب الطبيعة ولبابها؛ فقد كنت قبل قراءته لا أفهم إلا عن بني الإنسان دون ألوف الألوف من الكائنات التي تملأ فجاج اليابس وأغوار الماء، فعلمني هذا الكتاب النفيس كيف أفهم عن الحيوان ما يريد؛ فلئن كان الإنسان يلوك لسانه يمينا ويسارا ويخبط به في أعلى وأسفل ليرمز بهذه الحركات إلى معان، فليس الحيوان بأقل قدرة منه في ذلك، يتناقل أفراده المعاني بهز الأذناب وتحريك الأهداب؛ وقد كان علمي بلغة الحيوان موضوع فكاهة وسخرية من أصدقائي جميعا، يلذعونني بنكاتهم كلما نهق حمار أو زقزق عصفور؛ ولكني مضيت في دراستي لا يثنيني ما لقيت في الدرس من مشقة وعناء، لأني رأيت أنه إن جاز لمعاهد العلم أن تفني من طلابها زهرات أعمارهم في دراسة لغة قديمة درس أهلها وطواهم الزمن في جوفه العميق، فخليق لواحد من بني آدم أن يعنى بلغات «أقوام» تعاصرنا وتعاشرنا وتبدل لنا وحشة العالم بهجة وأنسا. وأحمد الله أن كتب لي التوفيق فأعانني على بلوغ ما أريد؛ فها أنا ذا أجلس إلى مكتبي ذات مساء، والليل منشور الذوائب ضارب بجرانه، والسكون عميق لا أسمع فيه إلا حفيفا خفيفا وهمسا خافتا، وهاتان فراشتان قد التقتا تحت مصباحي وأخذتا تسمران بحديث رائع جذاب، لم أملك معه إلا أن ألقي الكتاب جانبا لأنصت. - لقد أنبأتني زميلة حديثا عجيبا هذا المساء، أنبأتني أن كاتبا بليغا من بني الإنسان قد رفع القلم يجول به ويصول في عشيرته من بني آدم، ليقول في ورع وإيمان إنه يؤمن بالإنسان! - وفيم كل هذا العناء؟ - لأنه واحد من بني الإنسان! يا ليت شعري ماذا تقول الأبقار لو تحركت بين حوافرها الأقلام، وماذا تزعم الأطيار لو كان تغريدها كلاما من الكلام؟ - وهل تؤمن البقرة إلا بفصيلة الأبقار، والعصفور إلا بقبيلة الأطيار؟
وجاء برغوث يقفز حول الفراشتين جذلان فرحا، ويحوم فوقهما صاعدا هابطا؛ ولم أكن وا أسفاه قد أتقنت لغة البراغيث لما فيها من عسر وتعقيد، ولكني استطعت رغم ذلك أن ألتقط من حديثه مع إحدى الفراشتين ألفاظا متناثرة علمت منها ما يريد.
قالت فراشة تحدث البرغوث الوثاب، وقد ضاق صدرها بلهوه وعبثه: هلا اصطنعت يا أخي شيئا من الجد في ساعة يجد فيها الحديث؟ ما كل ساعة للهو والطرب. - وفي أي أمر خطير تتحدثان؟ - في هذه النشوة التي أخذتك بغير مبرر معقول. - وأي حافز للطرب أشد وأقوى من عالم فسيح خلقه الله لي ألهو فيه وأمرح؟
فقالت الفراشة الثانية: أخلق الله هذا العالم الفسيح لك أنت؟ وماذا تقول إذن في الإنسان الذي سخر الطبيعة بعقله الجبار؟! - ومن تقصدين؟ أتريدين هذا الحيوان الذي ضمرت فيه رجلان وطالت رجلان؟ هل تعلمين لماذا خلق الله هذا الإنسان؟ هل تعلمين فيم سعى هذا المسكين آناء الليل وأطراف النهار؟ ليطعم فيجود لحمه فيصبح طعاما شهيا للبراغيث؛ ألا ما أشقى عالم البراغيث إن لم يكن بين صنوف الحيوان هذا الإنسان!
وجاءت بعوضة تسعى، تهز جناحيها الصغيرين طيا ونشرا، وأخذت تدنو من الفراشتين قليلا قليلا، ومالت برأسها تستمع للحديث، فلما استجمعت أطرافه اقتربت من الفراشتين ولبثت بينهما صامتة. وحدث ما شئت عما ملأ نفسي من سرور حين رأيت البعوضة تهم بالكلام؛ لأنني بلغت في فهمها حدا بعيدا بحيث لا تخفى علي من ألفاظها خافية، ولأني عهدت في البعوض حكمة عجيبة وعلما واسعا، لست أدري أنى له بمثله، ولا أنفك يوما عن التفكير في هذه الحشرة الغريبة، فهل جاءها العلم مكسوبا من تجاريب الحياة، أم هو موهوب مفطور في جبلتها؟
قالت البعوضة بعد صمت: فيم الحوار؟
فأجابت الفراشة المتحمسة، ولعل حماستها مستمدة من شبابها: في آدمي زعم لقومه أن كل شيء في الطبيعة يرقب أملا واحدا هو الإنسان، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز؛ كل شيء في البيت مسخر للطفل، يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم! ثم زعم لقومه - ويا هول ما زعم - أن الليل والنهار والحيوان الآبد والداجن، والأزهار والثمار والأنهار والجبال، وألوان الشفق في الأصائل والأسحار؛ كل هذا وغير هذا من صنوف ما يطوي الكون بين دفتيه، إنما خلق للإنسان!
Bog aan la aqoon