Dhanka Shucuurta ee Islaamka
الجانب العاطفي من الإسلام
Noocyada
الوجود الذى نحسه، وما يكمن فى تضاعيفه من لطف وبر، هو نعمة محض لا علة لها إلا محض الفضل الأعلى. إن المرء ينام وتبقى فى عروقه وأعصابه عشرات القوى التى تضبط حياته لا تهن ولا تسكن . من الذى استبقاها يقظة دائبة؟ بل من الذى أبدعها ابتداء من صميم العدم؟ إنه الله. إنه لم يخلقك إثر سؤال منك، ولم يشرف عليك وأنت جنين، ثم وأنت رضيع 199 لأنك طلبت منه ذلك، إنه فعل بك ذلك لأنه من ذاته منعم وهاب، واجد ماجد. ولو كان يدير الأمور وفق الأسئلة والرغبات لاندكت الآفاق وسرت الفوضى فى كل ناحية. إنه أرحم بالعباد من أنفسهم وأعرف بمصالحهم من منتهى تفكيرهم وعطفه السابق على مقدرات الخلائق هو الذى يسير الحياة، ويشيع فيها الخير، ويضمن لها البقاء. وفى هذا يقول ابن عطاء: " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل عنايته فيك لا لشىء منك. وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟. لم يكن فى أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، لم يكن إلا محض الإفضال وعظيم النوال ". إن الفضل ينبثق من ذى الجلال والإكرام لأن ذلك وصفه كما ينبثق الشعاع من الشمس ولله المثل الأعلى لأن طبيعتها الاتقاد. إن الملك الجليل الشأن الذى انبسط سلطانه على كل شىء فهو فى السماء إله وفى الأرض إله، ويعطى ويغدق لأن الكمال نعته سواء عرف البشر ذلك أم أنكروا. وعطاؤه على قدر عظمته، ومن ثم فهو أحق من يرجى ويقصد!! إن البشر يتهافتون على من يأنسون فيه القوة والغنى التماس جداء وابتغاء نداء، ولو عقلوا لعلموا أن ما لديه قطرة معارة، وأن أحق من يشدون إليه الرحال ويربطون به الآمال، هو الكبير المتعال. إن الأساس فى طبائع البشر طرا، مهما سمت مناصبهم وبدت قدراتهم، أنهم يأخذون لا يعطون. أليسوا فقراء إلى الله، عالة على فضله؟ فالاتجاه بالرجاء إليهم طيش. أما الرجاء فى الله فعمل وافق موضعه وأصاب هدفه. ثم إن جمهرة البشر حين يسألون تتحرك فيهم صفاتهم الفطرية، فهم بين جاهل بحال السائل، أو عالم بها عاجز عن علاجها، أو قادر يمنعه شح نفسه عن الإجابة. وتلك كلها آفات منفية عندما يتجه الرجاء إلى الله جل جلاله. ولذلك ترى أولى الألباب يقصدونه بالمطالب الجسام وهم راجون ألا ينقلبوا عن ساحته إلا راضين... 200 قال ابن الجوزى : خلقت لى همة عالية تطلب الغايات. بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، تقوية البدن، وبلوغ الآمال. فأنكرت على العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب. فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات. وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلا. وقيل لآخر جئناك فى حاجة لا نرزؤك. فقال: هلا طلبتم لها سفساف الناس؟ فذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع فى فضل كريم قادر"؟. ترى ما هى العظائم التى نقف بباب الله راجين أن نثوب بها؟ ما هى الأعطية الجزلة التى نتمنى على الله قضاءها، ونراه جل شأنه أهلا للإفضال بها وبأضعافها. إن كل أمرئ يحب ألا يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا امتلكه. ولو أن الله منح العباد ما يشتهون من ذلك كله ما تعب، ولا نقصت خزائنه. غاية ما يجب أن نتصارح به، أنه لا يجوز أن نطلب إثما ولا جهلا ولنضرب لذلك مثلا. إن الحياة الدنيا دار اختبار، وهى ممر لا مستقر، والآخرة عند الله أزكى منها وأبقى، فإذا وفد بشر على الله بآماله التى يطلب تحقيقها، وكانت هذه الآمال مضادة لهذه الحقائق كلها، بأن كانت الدنيا فى وعيه أرجح من الآخرة وكانت رغبته لا تعدو إشباع نهمته منها وحسب! أترى هذا الجاهل يعود إلا بخيبة الرجاء؟. إن المشكلة التى يجب أن تنحل فى أذهان الناس أولا هى تصور حقائق الحياتين..!! وشىء آخر: ماذا يجاب إليه طفل يحب أن يبقى طول عمره رضيعا؟ أيحقق له رجاؤه؟ إن أغلب الناس ينزلون فى أدعيتهم عند نداء طبائعهم، ولو أجيبوا لعاشوا أطفالا لا يحملون من أعباء التكاليف شيئا. إن الله أهل لأن تنزل عليه بكل ما يجيش فى نفسك من آمال. وإذا كان قد أعطى تفضلا من غير سؤال، فهل يرد سائلا جاءه راجيا؟ بيد أننا بحاجة إلى العقل والأناة والتبصر. أعجبنى ما رواه ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم النبى صلى الله عليه وسلم نهارى، فإذا كان 201 الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان ربى، حتى أمل أو تغلبنى عيناى فأنام. فقال يوما: يا ربيعة سلنى فأعطيك. فقلت: انظرنى حتى انظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجينى من النار ويدخلنى الجنة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟. قلت: ما أمرنى به أحد ولكنى علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذى أنت منه فأحببت أن تدعو الله لى. قالى: إنى فاعل فأعنى على نفسك بكثرة السجود . (وفى بيان ما يرجو العبد، وتتعلق به همته يقول ابن الجوزى: دعوت يوما فقلت: اللهم بلغنى آمالى من العلم والعمل، وأطل عمرى لأبلغ ما أحب من ذلك: فعارضنى وسواس من إبليس، فقال ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذى ينفع طول الحياة؟. فقلت له: يا أبله. لو فهمت ما تحت سؤالى علمت أنه ليس بعبث. أليس فى كل يوم يزيد علمى ومعرفتى فتكثر ثمار غرسى. فأشكر يوم حصادى؟. أفيسرنى أنى مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأنى ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتى به اليوم. وكان ذلك ثمرة طول الحياة التى فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت من حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدرى، وتجوهرت بها نفسى. ثم زاد غرسى لآخرتى، وقويت تجاربى فى إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله لسيد المرسلين: ( وقل رب زدني علما) . وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا. وفى حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة ". 202 فياليتنى قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع). عندما قرأت كتاب " صيد الخاطر " لابن الجوزى أحسست أن الرجل عبر بكلمات بصيرة بليغة عن خوالج نفسية تحركت فى باطنى، وسجلت أطرافا منها قبل أن أطلع على كتابه هذا. وربطنى بالرجل إلى جانب ذلك أنه مشغول بتعليم الإسلام ونصح الجماهير، وهى الوظيفة التى شرفنى القدر بها... والناس يظنون فى رجال الدين كما يسمونهم جمود الحس، وسواد المزاج، وفقدان القدرة على تذوق الحياة. وهذه أوصاف قد توجد فى نفر ممن نكبت به الأديان قديما وحديثا، وهى موجودة يقينا فى طوائف أخرى، ولكن سوء الحظ جعل النظرة العجلى تتناول خدام الإيمان وحدهم بهذا الاتهام...!! وكثيرا ما أبتسم فى حرج ونفرة وأنا أرى كثيرا من المعلولين فى خلقهم الغموصين فى مواهبهم يستطيعون بحكم مراكزهم القوية فى المجتمع أن ينالوا منا، وأن يضربوا حولنا أسوارا من حديد لنحيا كما يريدون لا كما تتطلب ملكاتنا وقدراتنا وخبراتنا. وكم يكظم الإنسان الآلام فى نفسه، وهو مفعم بالأشواق إلى الجمال والعزة والاستغناء، ثم يمد بصره فلا يرى حوله إلا الدمامة والهوان والعيلة. وما أغرب الناس، إنهم يشتهون الدنيا، وينحنون لملاكها فى ضراعة ووضاعة، وفى الوقت نفسه يحرمونها على علماء الدين؟ ثم يحتقرونهم لفقرهم، ولكل ما يستتبعه الفقر من مسكنة وقلق. وكم يشعر الإنسان أنه بين نارين، إن سكت عن حقه فى الحياة ضاع واستمكن الرعاع من زمامه، وإن طلبه فى بيئة ضنينة به قيل: طلب دنيا يزاحم عليها.. إن أمثالنا من الدعاة إلى الله ينقلون أقدامهم بوجل فى سبيل مزحومة بالأقذاء والإنكار، لا يعين على السلامة فيها إلا الله، والذى لا نسأم دعاءه ورجاءه. وما أنكر من نفسى أنى أحب الدنيا، ولبئست هى إن كانت مهادنة لظالم أو إغضاء عن منكر. 203 أما أن تكون دعما للحق، وغنى عن الأدنياء فنعما هى... إن وجه الرذيلة شائه فى بصرنا، وطعمها مر فى مذاقنا، ونحمد الله إذ أورثنا كرهها. أما طيبات الحياة التى تلهج الألسنة بالثناء، وتبعث الجوارح على الشكر فنعما هى، وما نستحيى من استحلائها والإكثار منها... وربما كان لبعض الناس جلادة على خشونة العيش، واصطبار على كآبة المنظر فى الأهل والمال، لكنى والله أضيق بهذا وأستعيذ بالله منه. ولست أطلب من الله سعة تشغل عنه، بل أطلب سعة تدفع إليه، وكثيرا يحصن من زراية السفهاء، ولعب الكبراء... فإن كان ذلك بابا إلى نقص العلم، أو هوان المنزلة يوم القيامة فنرجو أن يجعل الله بيننا وبينه حجابا غليظا وأمدا بعيدا... جالت هذه الخطرة فى نفسى وأنا أقرأ لابن الجوزى هذه النفثة التى سطرها فى كتابه " صيد الخاطر " يصف بها حياته ورجاءه. وقلت: ألا ما أقرب الشبه بين عيش وعيش، وأمل وأمل. قال: غفر الله لنا وله : " ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته، فإن من علت همته يختار المعالى. وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى فى عذاب. وإنى أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به فى عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن، فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل. ولقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم. فتأملتها فإذا هى فى فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضى: ولكل جسم فى النحول بليلة وبلاء جسمى من تفاوت همتى فنظرت فإذا هذا غاية أمله الإمارة. وكان أبو مسلم الخرسانى فى حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له فى ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفسى تتوق إلى معالى الأمور مع عيش كعيش الهمج الرعاع. قيل: فما الذى يبرد غليلك. قال: الظفر بالملك. قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال. 204 قيل: فاركب الأهوال، قال!: العقل مانع. قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلى جهلا، وأحاول به خطرا لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب فى طلب الولايات، فكم فتك وقتل؟ حتى نالى بعض مراده من لذات الدنيا. ثم لم يتنعم فى ذلك غير ثمان سنين. ثم اغتيل، ونسى تدبر العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان المتنبى يقول: وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبا بين جنبى ماله مدى ينتهى بى فى مراد أحده يرى جسمه يكسى شفوفا تربه فيختار أن يكسى دروعا تهده فتأملت هذا الآخر، فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب. ونظرت إلى علو همتى فرأيتها عجبا. وذلك أننى أروم من العلم ما أتيقن أنى لا أصل إليه، لأنى أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها. وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه. فإن عرض لى ذو همة فى فن بلغ منتهاه ورأيته ناقضا فى غيره، لم أعد همته تامة. مثل المحدث الذى فاته الفقه، والفقيه الذى فاته علم الحديث، فلا أرى الرضى بنقصان شىء من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة. ثم إنى أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد. ثم إنى أروم الغنى عن الخلق، واستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم من الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية. ثم إنى أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عنى بعد التلف. وفى طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد. ثم أرنى أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفى ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة. وكذلك أطلب لبدنى ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه 205 واللطف، وفى قلة المال مانع، كل ذلك جمع بين أضداد. فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟. وأنا لا أحب أن يخدش حصود شىء من الدنيا وجه دينى بسبب. ولا أن يؤثر فى علمى، لا فى عملى. فواقلقى من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف. وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم. وما أسفى على ما يفوتنى من المناجاة فى الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم. ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة. غير أنى قد استسلمت لتعذيبى، ولعل تهذيبى فى تعذيبى، لأن علو الهمة تطلب المعالى المقربة إلى الحق عز وجل. وربما كانت الحيرة فى الطلب دليلا إلى المقصود. وها أنا ذا أحفظ أنفاسى من أن يضيع منها نفس فى غير فائدة. وإن بلغ همى مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله ". والرجاء فى الله تعالى، وحسن الظن به، إنما يقبلان إذا أقترنا بالعمل الواجب، وصحبهما الإسراع فى حق الله تعالى، والسهر على مرضاته. أما مع البطالة والاسترخاء فلا مكان لرجاء ولا موضع لحسن الظن. وتدبر قوله تعالى يصف من ترشحهم أعمالهم لرضاه: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) . إيمان وهجرة وجهاد، تلك هى التى يرجو أصحابها فضل الله تعالى. أما الريبة والقعود والراحة فلا تبلغ أملا، ولا تنتج إلا شرا. وتدبر قوله تعالى يحصى أنواعا أخرى من البر، هى التى تؤهل لحسن القبول : (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور). تلاوة القرآن يعنى إحياء تعاليمه. وإعزاز شرائعه والنفقة التى تسد ثغرات المجتمع ما علن منها وما خفى، والإقبال على الصلوات الجامعة إقبالا يعلى ذكر الله تعالى فى الحياة، ويجعل الهتاف باسمه وحده شارة الأمة، تلك هى أسباب الرجاء 206 الحق، وتأميل النصر، والتمكين، والنعماء. وللناس بطبيعتهم البشرية أخطاء تبدر منهم ويسيئون بها إلى أنفسهم وغيرهم، وربما جرت غضب الله عليهم، إلا أنهم إذا أحسوا سوءها، وضرعوا إلى الله تعالى أن يفك عنهم إصرهما، كان للرجاء فى غفران الله تعالى موضع. إن هذا الرجاء الحار لا يجوز أن يفارق المؤمن فى أى لحظة من حياته، سواء كان قوى الساعد يضرب فى الأرض ببأس، أو وهو يولى ظهره للحياة، ويضع قدمه على عتبة الآخرة قادما إلى الله تعالى. عن أنس رضى الله عنه أن النبى دخل على شاب وهو فى الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإنى أخاف ذنوبى. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف " . وعن حيان أبى النضر قال: خرجت عائدا ليزيد بن الأسود، فلقيت وائلة بن الأسقع وهو يريد عيادته، فدخلنا عليه، فلما رأى وائلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل وائلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفى وائلة فجعلها على وجهه. فقال له وائلة: كيف ظنك بالله؟ قال : ظنى بالله والله حسن. قال: فأبشر، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدى بى ، إن ظن بى خيرا فله ، وإن ظن بى شرا فله " وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمر الله عز وجل بعبد إلى النار، فلما وقف على شفتها التفت! فقال: أما والله يا رب إن كان ظنى بك لحسنا. فقال الله عز وجل: ردوه، أنا عند حسن ظن عبدى بى ". وهذا الحديث ضعيف السند، ومعناه يقبل فى حدود الدائرة التى رسمناها من صحيح الكتاب والسنة، وأقصى ما يشير إليه التنويه بقيمة حسن الظن إن الشخص الذى يحسن بك الظن يعرفك معرفة لا بأس بها، وإن كانت المعرفة فنا أوضح فى ناحية الرحمة والتجاوز. وهو قد يخطى فى حقك لاختلال المقاييس التى يزن بها الأمور، لكنه مع هذا الخطأ لا يوصف بأنه لك عدو، إنه صديق، أو تابع، لم يحسن التصرف فقط. 20 ص
وربما انضم إلى هذه الخلة ما يعرض صاحبها لمؤاخذات قاسية. وحديث الرجل الذى التفت إلى الله وهو على شفا الهاوية وفى فؤاده رجاء لم يغرب شعاعه، جعله إلى الرمق الأخير يتلفت آملا الغوث، غير مصدق أن الله يسلمه إلى هذا المصير. هذا الحديث إن صح لا يهون من قيمة العمل. إنه يصور حالة امرئ مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وكان يجوز أن يقذف فى النار لتحرق بقايا السوء فى نفسه، كما سيقع ذلك لكثير من المؤمنين الذين بينت السنن الصحاح عقبى تخليطهم، وتفريطهم، غير أن الله جلت رحمته عفا عنه. وكأن كفة الخير فى عمله كان ينقصها القليل لتميل جهة اليمين، فكان حسن ظنه بالله وحسن الظن إيمان المرجح الذى نجا به. أما قلة الاكتراث بالواجب، وسرعة التهاوى على المحرم فلا يمكن أن يكونا فى نفس تحسن بالله تعالى الظن، بل هما فى نفس صدق عليها إبليس ظنه. ومن التلاعب بالألفاظ أن ترى أمما جاهلة بالله تعالى، تمرق فى حدوده، وتهدر أحكامه، وتؤمل مع ذلك فى نعيمه ورضوانه بدعوى أنها تحسن الظن بالله تعالى. ومن أدعياء التدين من يشغب على قواعد الدين، ومن يجرئ العامة والخاصة على الإفلات من ربقته باسم الأمل فى الرحمة، والتعويل على حسن الظن. وذلك كله ضرب من الفوضى الفكرية والخلقية لا يجوز السكوت عليه، وقد حاربه الأئمة من قديم، وشددوا النكير على أصحابه، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالى: قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندى التمادى فى الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصى، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمنى على الله عز وجل مع الإفراط: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس قال: وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض،.
Bogga 197