Janaqu Masamiirka Dhulka
الجنقو مسامير الأرض
Noocyada
لا يعرف الناس شيئا حقيقيا عن الأم؛ لافتراضهم الخاطئ بأنهم يعرفون عنها كل شيء؛ بالتالي لم تحك عنها حوادث، أو أشياء مدهشة، ولم أسمع أحدا يتحدث من قبل عن حياة أدي؛ ماضيها، أسرتها، بلدها، ولا حتى اسمها الحقيقي، فلقد كانت مثلها مثل كل الأشياء المعتادة كالماء، والسماء، والليل، والنهار، قال لي ود أمونة، وكنا في ذلك الحين نحكي عن ذكريات سجن القضارف؛ أنا كابن سجان، وهو كسجين صغير في صحبة أمه، حينما انحرف بنا الحديث إلى سيرة أدي: لو ماتت أدي فجأة، لا قدر الله؛ منو الحيرثا؟
وما كان ود أمونة يرجو إجابة مني، بل كان يكمل رأيا أدلى به في بداية حديثنا عن أدي، كانت مقاتلة في الحركة الشعبية لتحرير إريتريا، منذ أن كان عمرها لا يتجاوز السبعة عشر عاما، ود أمونة وغيره من الناس يعتبرون ذلك من المسلمات والبديهيات، ويؤمنون بأنها كانت محاربة شرسة وشجاعة وجميلة، وأنها قائدة ميدانية بارعة، وأنها هزمت كثيرا وانتصرت كثيرا؛ شأنها شأن كل الأبطال، ورأت موت الرفاق والأصدقاء، وجرحت وأسرت وهربت من الأسر، وأنها كانت قبل الثورة صديقة لمنقستو هيلا مريام، عندما كان فالولا في تخوم الحدود السودانية الإريترية الحبشية، ويظن أن أحد والديها إريتري، والآخر إثيوبي، أو كلاهما إثيوبي، أو إريتريي، كل هذه المعلومات الواضحة التناقض هي المعرفة الجيدة والوحيدة المسموح الإيمان بها وتصديقها هنا في الحلة، لم تسمح لي فترات جلوسي معها ومقابلاتي القصيرة لها بالتأكد من صحة هذه المعلومات؛ حيث كانت الأم دائما مشغولة بشأن يخص البيت، أو أحد الزبائن، أو البنيات، وود أمونة، الوقت دائما للعمل، قال لي وهو يمسح وجهه الوسيم بكفه: أنت ما بتعرفني كويس، مش؟
اندهشت في بادئ الأمر، كنا في بيت أدي صبيحة هروب حبيبتي ألم قشي مني إلى زوجها وطفلتيها، ولقد فرغ ود أمونة نفسه لتسليتي، شربنا معا بعض كئوس العسلية المنعشة، قلت له بعد تردد قصير: والله، لحد ما.
قال ضاحكا محاصرا إياي: من القولات والندوات في بيت المرايس وبس، مش كدا؟
قلت له معترفا بتقصيري في خجل: تقدر تقول كدا؛ لأننا ما لقينا وقت نقعد فيه مع بعض زي القعدة دي، حتى الأم ذاتها، أنا معرفتي بيها طشاش طشاش، وفي حاجات قلتها لينا أنا وألم قشي عن السجن، والطباخ، وأمك، والعازة، وشوية حاجات تانية ما أظني متذكرها.
قال بتأثر: أنا ما لاقي زول أتكلم معاهو عن نفسي، عني أنا بالذات، أنا عندي حاجات كثيرة زاماني في صدري، عايز زول صاحب أحكيها ليه؛ عشان يوريني الصح شنو، والخطأ شنو، قلت له، وقد أحسست أنني في ورطة؛ لأنني في الحق لا أعرف الصحيح من الخطأ في السلوك الإنساني، وهو يريدني الآن حكما: أنا بحب أسمعك، ولكن أنا ما بقدر أقول ليك دا صح، ودا خطأ، ولا في زول في الدنيا بيعرف الصح من الخطأ، لكن على كل حال أنا عايزك تحكي لي كصديق، وكأخ ما أكتر.
حرك الهواء على جمر الشيشة بهبابة صغيرة من السعف، فبدا الجمر محمرا، بعد أن تطاير الرماد في كل الاتجاهات، وكأن ذلك يعني الكثير لود أمونة؛ لأنه قال لي مباشرة بعد ذلك: حياتي زي الجمرة دي، أنا ما ارتحت لحظة.
ثم هتف فجأة، وهو يحملق في وجهي: أنا بت ولا ولد؟
ولأنه ما كان يريد مني إجابة بعينها، واصل حديثة بهدوء شديد، شرح لي كيف أنه اكتشف نفسه، وهو في نحو الثامنة عشرة، كانوا مجموعة من الشبان يسبحون في نهر باسلام، وهو أحد ميادين اللعب التي يواظبون عليها ويؤدون بعض الألعاب المعروفة، مثل التمساح والغطاس، ولعبة العود، وغيرها، وكانوا يتلامسون في كل هذه الألعاب بأجسادهم، وهو شيء عادي ولا غرابة فيه، ولكنه ذات يوم أحس برعشة قوية كادت تغرقه عندما التصق جسده بجسد ولد آخر، بينما هما يلعبان لعبة التمساح والغطاس، كان دائما ما يعجب برشاقته ومهاراته في صيد الطيور، والأرانب البرية، التي تكثر في الضفة الشرقية من النهر، الضفة المتوحشة غير المأهولة بالسكان، ولكن ما حدث في ذلك اليوم كان شيئا غريبا جدا، قال لي: قلت في نفسي، ربما أكون لمست البردة.
وهي سمكة تفرز شحنة كهربائية عالية للدفاع عن النفس، ونادرا ما توجد في تلك المياه، كان هذا هو التفسير الوحيد المتاح لود أمونة في ذلك الوقت، ومر هذا الحدث مرورا سريعا لم يتوقف ود أمونة عنده كثيرا، ولكن ما حدث له مع الرجل الغريب الذي جاء لبيت الأم ذات درت «صيف» يعتبر نقطة التحول الفعلية في حياته، كان رجلا ناعما رقيقا، يبدو في أوآخر خمسينياته، رشيقا، وسيما، ويتحدث بلطف وهدوء كبيرين، كانت النساء يتكلمن معه في كل شيء دون حرج، بل وكأنه واحدة منهن، عندما رآه ذلك الرجل ناداه، أمسك بيديه، وجذبه قريبا من وجهه، كان له عطر مميز أصبح عطر ود أمونة الأساسي منذ ذلك اليوم، قربه أكثر إلى أن أحس بأنفاسه في وجهه، قبله قبلتين في خديه، ومرر أنامل يده اليمنى على شفتيه متحسسا رقتهما، ثم همس في أذنه برقة، وهو يمسح بيده الأخرى على شعره: اهتم بنفسك، أنت أمير.
Bog aan la aqoon