رمى الله في عيني بثينة بالقذى
وفي الغر من أنيابها بالقوادح
لأنه سأل الله تشويه ما هو حسن في عيني حبيبته وثغرها وهما أجمل ما يتمنى له الجمال في وجه محبوب، ولأنه تجافى الرقة كلها حين دعا عليها ذلك الدعاء الغليظ الذي يدعو به العدو على ألد أعدائه.
ولكن هذا البيت مع هذا أدل على عشق جميل من عشر قصائد غزلية تفيض بالرقة والثناء؛ لأنه دليل على حب برح به وحار في الخلاص منه وغلب على مشيئته فيه، وظن أن البلاء كله من جمال تلك العيون وجمال تلك الثنايا، فلم يبق له من حيلة إلا أن يسأل الله إتلاف هذا الجمال عسى أن يطيق بعد ذلك سلوه والراحة من بلواه، أما قبل ذلك فلا حيلة له ولا طاقة بالسلو والنسيان.
هذا أعمق الحب وأصدق الغزل، ولك أن تقول: إنه غزل صادق من رجل سيئ، أو إنه غزل صادق من رجل طيب في سورة اليأس والحيرة، فهذا حق لا غبار عليه ... أما أن يكون مبطلا في عشقه وغزله؛ لأنه تمنى تلك الأمنية، فذلك من اللغو الذي لا صدق فيه.
ولك أن تقول: إنها أمنية رجل تغلب عليه «الأنانية»، ويلتمس الراحة بما استطاع من وسيلة، ولو كان فيها بلاء لمن يهواه، إلا أنك لا تنسى أنه تمنى تلك الأمنية؛ لأنه أحب وضاق ذرعا بحبه، وبلغ أقصى ما يبلغه العاشق من التعلق بالمعشوق، والعجز عن الفكاك من إرهاقه، فهي - إن شئت - «أنانية» ذميمة، لا ترضى عنها الأخلاق الكريمة، ولكنه حب قوي وتعبير صادق عنه، وهذا هو المرجع في قياس الشعر وتحقيق العاطفة، ولا مرجع سواه.
وفي شعر جميل ما ينم على الأنانية لا مراء، كقوله في الرائية المشهورة:
فلا نعمت بعدي ولا عشت بعدها
ودامت لنا الدنيا إلى ملتقى الحشر
فهو يتمنى البقاء معها إلى ملتقى الحشر، ولكنه يأبى عليها الحياة بعده، ويسأل الله أن يموتا معا إذا قضى الله أن يعجل بموته.
Bog aan la aqoon