بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد الله الذي خلق الإنسان، وجعله أفضل أنواع الأكوان، وصيره نسخة لما أوجده من عوالم الإمكان، أظهر فيه عجائب قدرته القاهرة. وابرز فيه غرائب عظمته الباهرة، ربط به الناسوت باللاهوت، وأودع فيه حقائق الملك والملكوت، خمر طينته من الظلمات والنور، وركب فيه دواعي الخير والشرور، عجنه من المواد المتخالفة، وجمع فيه القوى والأوصاف المتناقضة، ثم ندبه إلى تهذيبها بالتقويم والتعديل، وحثه على تحسينها بعد ما سهل له السبيل، والصلاة على نبينا الذي أوتي جوامع الحكم، وبعث لتتميم محاسن الأخلاق والشيم، وعلى آله مصابيح الظلم، ومفاتيح أبواب السعادة والكرم صلى الله عليه وعليهم وسلم.
أما بعد فيقول طالب السعادة الحقيقية (مهدي بن أبي ذر النراقي) بصره الله نفسه، وجعل يومه خيرا من أمسه: إنه لا ريب في أن الغاية من وضع النواميس والأديان، وبعثة المصطفين من عظماء الإنسان، هو سوق الناس من مراتع البهائم والشياطين، وإيصالهم إلى روضات العليين، وردعهم عن مشاركة أسراء ذل الناسوت، ومصاحبة قرناء جب الطاغوت إلى مجاورة سكان صقع الملكوت، ومرافقة قطان قدس الجبروت، ولا يتيسر ذلك إلا بالتخلي عن ذمائم الأخلاق ورذائلها، والتحلي بشرائف الصفات وفضائلها.
فيجب على كل عاقل أن يأخذ أهبته، ويبذل همته في تطهير قلبه عن أوساخ الطبيعة وأرجاسها، وتغسيل نفسه عن أقذار الجسمية وأنجاسها قبل أن يتيه في بيداء الشقاق، ويهوي في مهاوي الضلالة والهلاكة، ويصرف جده ويجتهد جهده في استخلاص نفسه عن لصوص القوى الأمارة ما دام الاختيار بيده، إذ لا تنفعه الندامة والحسرة في غده.
ثم لا ريب في أن التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح الله أهلها،
Bogga 30
ولم يرخص لأحد جهلها، وهي الموجبة للحياة الحقيقية، والسعادة السرمدية، والتارك لها على شفا جرف الهلكات، وربما أحرقته نيران الشهوات.
وقد كان السلف من الحكماء يبالغون في نشرها وتدوينها، وجمعها وتبيينها، على ما أدت إليه قوة أنظارهم، وأدركوه بقرائحهم وأفكارهم، ولما جاءت الشريعة النبوية " على صادعها ألف صلاة وتحية " حثت على تحسين الأخلاق وتهذيبها، وبينت دقائقها وتفصيلها بحيث اضمحل في جنبها ما قرره أساطين الحكمة والعرفان، وغيرهم من أهل الملل والأديان، إلا أنه لما كان ما ورد منها منتشرا في موارد مختلفة، ومتفرقا في مواضع متعددة، تعسر أن يحيط به فلا بد من ضبطه في موضع واحد ليسهل تناوله للكل، فجمعت في هذا الكتاب خلاصة ما ورد من الشريعة الحقة، مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة على نهج تقربه أعين الطالبين، وتسر به أفئدة الراغبين.
ونذكر أولا بعض المقدمات النافعة في المطلوب، ثم نشير إلى أقسام الأخلاق، ومبادئها من القوى ونضبطها بأجناسها وأنواعها ونتائجها وثمراتها، ثم إلى المعالجة الكلية لذمائم الأخلاق والجزئية لكل خلق مذموم: مما له اسم مشهور، وما ينشأ عنه من الأفعال المذمومة، وفي تلوه نذكر ضده المحمود، وما يدل على فضله عقلا ونقلا، لأن العلم بفضيلة كل خلق والمداومة على آثاره أقوى علاج لإزالة ضده، ولا نتابع القوم من تقديم الرذائل بأسرها على الفضائل، بل نذكر أولا ما يتعلق بالقوة العقلية من الفضائل والرذائل على النحو المذكور، ما يتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق باثنتين منها أو ثلاث، لأن ذلك أدخل في ضبط الأخلاق، ومعرفة أضدادها، والعلم بمبادئها وأجناسها، وهو من أهم الأمور لطالبي هذا الفن.
وما تعرضت لتدبير المنزل وسياسة المدن، لأن غرضنا في هذا الكتاب إنما هو مجرد إصلاح النفس، وتهذيب الأخلاق، وسميته " بجامع السعادات " ورتبته على ثلاثة أبواب.
Bogga 31
الباب الأول في المقدمات انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار - تجرد النفس وبقاؤها - التذاذ النفس وتألمها - فضائل الأخلاق ورذائلها - الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف - حصول الملكات بتضاعف الأعمال - العمل نفس الجزاء - القول بتجسد الأعمال والملكات - المضادة بين الدنيا والآخرة - للجبلة والمزاج دخل في جودة الملكات ورداءتها - حقيقة الخلق وماهية الملائكة - الأقوال في تبدل الأخلاق والملكات - شرف علم الأخلاق - تعريف النفس وأساميها باختلاف الاعتبارات - في الإشارة إلى اعتبار مدافعة القوى الأربع - إنقهار النفس بتسخير القوة العالية - اختلاف الصفات يوجب اختلاف النفوس - إئتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة - حقيقة الخير والسعادة - والجمع بين الأقوال المختلفة فيها - شرائط حصول السعادة - غاية ما يمكن الوصول إليه من السعادة - تقسيم اللذات والآلام - اللذة في الحقيقة هي العقلية دون الحسية - إيقاظ فيه موعظة ونصيحة - التنبيه على أن الفائت لا يتدارك.
فصل انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار إعلم أن الإنسان منقسم إلى سر وعلن وروح وبدن ولكل منهما منافيات وملائمات، وآلام ولذات، ومهلكات ومنجيات.
ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية وملائماته هي الصحة واللذات الجسمانية. والمتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض ومعالجاتها هو علم الطب. ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه، وصحته رجوعه إلى فضائلها التي تسعده وتنجيه وتوصله إلى مجاورة أهل الله ومقربيه. والمتكفل لبيان هذه الرذائل ومعالجاتها هو (علم الأخلاق).
ثم إن البدن مادي فان، والروح مجرد باق، فإن اتصف بشرائف الصنات كان في البهجة والسعادة أبدا، وإن اتصف برذائلها كان في العذاب والشقاوة مخلدا، ولا بد لنا من الإشارة إلى تجرده وبقائه بعد خراب البدن ترغيبا للطالبين على السعي في تزكيته وحفظه عن الشقاوة الأبدية.
Bogga 32
فصل في تجرد النفس وبقائها لا ريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن. أما الأول (والمراد به عدم كونها جسما وجسمانية) فيدل عليه وجوه:
(منها) إن كل جسم لا يقبل صورا وأشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله، والنفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات من دون أن نزول الأولى بورود الأخرى، بل كلما قبلت صورة ازدادت قوتها على قبول الأخرى، ولذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضيات الفكرية وكثرة النظر، فثبت عدم كونها جسما.
و (منها) إن حصول الأبعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضا عميقا وحصول الألوان والطعوم والروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون وطعم ورائحة وهي تحصل للنفس وقوتها الوهمية بالإدراك من غير أن تصير كذلك، وأيضا حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له، ولا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء.
و (منها) أن النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الأمور الإلهية والمعارف الحقيقية، ولا تميل إلى اللذات الجسمية والخيالية والوهمية، بل تحن أبدا إلى الابتهاجات العقلية الصرفة التي ليس في الجسم وقواه فيها نصيب، وهذا أوضح دليل على أنها غيرهما، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شوائب الطبيعة من البهجة والسرور بإدراك العلوم الحقة الكلية والذوات المجردة النورية القدسية، وبالمناجاة والعبادات والمواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها وقواه الخيالية والوهمية وغيرهما، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية، وربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن ولا تدري أن لها بدنا فكأنها منخلعة عنه، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم وقواه، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة.
و (منها) أن النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلا لها، ولا ريب في أن المادي يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل
Bogga 33
للانقسام، وكون المحل ذا وضع قابل للانقسام يستلزم أن يكون حاله أيضا كذلك كما ثبت في محله، والمجرد لا يمكن كذلك وإلا خرج عن حقيقته، فالنفس لا تكون مادية وإذا لم تكن مادية كانت مجردة لعدم الواسطة.
و (منها) أن القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من طريق الحواس الظاهرة إذ ما لم يدرك الشئ بها لم تتمكن الحواس الباطنة أن تدركه وهذا وجداني وضروري. والنفس قد تدرك ما لا طريق الشئ من الحواس إلى إدراكه كالأمور المجردة والمعاني البسيطة الكلية، وأسباب الاتفاقات والاختلافات التي بين المحسوسات، والضرورة العقلية قاضية بأنه لا مدخلية لشئ من الحواس في إدراك شئ من ذلك.
وأيضا تحكم بأنه لا واسطة بين النقيضين، وهذا الحكم غير مأخوذ من مبادئ حسية إذ لو كان مأخوذا منها لم يكن قياسا أوليا، فمثله مأخوذ من المبادئ الشريفة العالية التي تبنى عليها القياسات الصحيحة.
وأيضا هي حاكمة على الحس في صدقه وكذبه وقد تخطئه في أفعاله وترد عليه أحكامه كتخطئته للبصر فيما يراه أصغر ما هو عليه في الواقع أو بالعكس، وفيما يراه مستديرا وهو مربع، أو مكسورا وهو صحيح، أو معوجا وهو مستقيم، أو منكوسا وهو منتصب، أو مختلفا في وضعه الواقعي، وفي رؤيته للأشياء المتحركة على الاستدارة كالحلقة والطوق، وكتخطئته للسمع فيما يدركه في المواضع الصقيلة المستديرة عند الصدى، وللذوق في إدراكه الخلو مرا ومثله، كذا الحال في الشم واللمس، ولا ريب في أن تخطئة النفس الحواس في هذه الإدراكات وحكمها بما هو المطابق للواقع إنما يكون مسبوقا بالعلم الذي لا يكون مأخوذا من الحس، لأن الحاكم على الشئ أعلى رتبة منه فلا يكون علمه الذي هو مناط مأخوذا عنه.
ومما يؤكد ذلك أنها عالمة بذاتها وبكونها مدركة لمعقولاتها. ومعلوم إن هذا العلم مأخوذ من جوهرها دون مبادي، أخر.
و (منها) إنا نشاهد أن البدن وقواه يضعفان في أفعالهما وآثارهما، والنفس تقوى في إدراكاتها وصفاتها، كما في سن الكهولة، أو يكونان قويين في الأفعال مع كونها ضعيفة فيها كما في سن الشباب، فلو كانت جسما أو
Bogga 34
جسمانية لكانت تابعة لهما في الضعف والقوة.
(فإن قلت) الإدراك وسائر الصفات الكمالية للنفس يضعف أو يختل بضعف البدن أو اختلاله كما نشاهد في المشايخ والمرضى وتجردها ينافي ذلك.
(قلنا) الضعف أو الاختلال إنما يحدث في الإدراك والأفعال المتعلقة بالقوى الجسمية، وأما ما يحصل للنفس بجوهرها أو بواسطة القوى الجسمية بعد صيرورته ملكة لها يحصل فيه اختلال وضعف، يصير ظهوره أشد وتأثيره أقوى.
وأما الثاني أعني بقاءها بعد المفارقة عن البدن فالدليل عليه بعد ثبوت تجردها أن المجرد لا يتطرق إليه الفساد لأنه حقيقة والحقيقة لا تبيد كما صرح به المعلم الأول وغيره، ووجهه ظاهر.
فصل بيان تلذذ النفس وتألمها إذا عرفت تجرد النفس وبقاءها أبدا، فاعلم أنها إما ملتذة متنعمة دائما أو معذبة متألمة كذلك. والتذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، ولما كانت لها قوتان النظرية والعملية، فكمال القوة النظرية الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بإدراك كلياتها.
والترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي وغاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد ويتخلص عن وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان. وهذا الكمال هو الحكمة النظرية.
وكما القوة العملية التخلي عن الصفات الردية والتحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر وتخليته عما سوى الله سبحانه. وهذا هو الحكمة العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها.
وكمال القوة النظرية بمنزلة الصورة وكمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، ومن حصل له الكمالان صار بانفراده عالما صغيرا مشابها للعالم الكبير، وهو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود.
Bogga 35
فصل في فضائل الأخلاق ورذائلها فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلي عن الثانية والتحلي بالأولى من أهم الواجبات والوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات.
فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط (1) المثبتة من صاحب الشريعة والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قصر أدركته الهلاكة الأبدية، إذ كما أن الجنين لو خرج عن طاعة ملك الأرحام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى الدنيا سويا سميعا بصيرا ناطقا، كذلك من خرج عن طاعة نبي الأحكام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى عالم الآخرة كذلك.
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (2).
ثم ما لم تحصل التخلية لم تحصل التحلية ولم تستعد النفس للفيوضات القدسية، كما أن المرآة ما لم تذهب الكدورات عنها لم تستعد لارتسام الصور فيها، والبدن ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له إفاضة الصحة، والثوب ما لم ينق عن الأوساخ لم يقبل لونا من الألوان، فالمواظبة على الطاعات الظاهرة لا تنفع ما لم تتطهر النفس من الصفات المذمومة كالكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والعلى وإرادة السوء للاقران والشركاء وطلب الشهرة في البلاد وفي العباد، وأي فائدة في تزيين الظواهر مع إهمال البواطن.
ومثل من يواظب على الطاعات الظاهرة ويترك تفقد قلبه كبئر الحش (3) ظاهرها جص وباطنها نتن، وكقبور الموتى ظاهرها مزينة وباطنها
Bogga 36
جيفة، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه عن أصله فأخذ يجز رأسه ويقطعه فلا يزال يقوى أصله وينبت فإن الأخلاق المذمومة في القلب هي مغارس المعاصي فمن لم يطهر قلبه منها لم تتم له الطاعات الظاهرة، أو كمريض به جرب وقد أمر بالطلاء ليزيل ما على ظهره ويشرب الدواء ليقلع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء متناولا ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب يتفجر من المادة التي في الباطن.
ثم إذا تخلت عن مساوئ الأخلاق وتحلت بمعاليها على الترتيب العملي استعدت لقبول الفيض من رب الأرباب، ولم يبق لشدة القرب بينهما حجاب، فترتسم فيها صور الموجودات على ما هي عليها، على سبيل الكلمة، أي بحدودها ولوازمها الذاتية لامتناع إحاطتها بالجزئيات من حيث الجزئية، لعدم تناهيها، وإن علمت في ضمن الكليات لعدم خروجها عنها، وحينئذ يصير (4) موجودا تاما أبدى الوجود سرمدي البقاء، فائزا بالرتبة العليا، والسعادة القصوى، قابلا للخلافة الإلهية، والرئاسة المعنوية فيصل إلى اللذات الحقيقية، والابتهاجات العقلية التي ما رأتها عيون الأعيان، ولم تتصورها عوالي الأذهان.
فصل الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف الأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتضح لها جلية الحال اتضاحا، كيف والقلوب كالأواني فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبه وأنسه، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " لولا أن الشياطين يحرمون
Bogga 37
إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض " فبقدر ما تتطهر القلوب عن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحق الأول (5) وتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها، فإن التعرض لها إنما هو بتطهير القوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الردية (6) فكل إقبال على طاعة وإعراض عن سيئة يوجب جلاء ونورا للقلب يستعد به لإفاضة علم يقيني، ولذا قال سبحانه:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. (7).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " فالقلب إذا صفى عن الكدورات الطبيعية بالكلية يظهر له من المزايا الإلهية والإفاضات الرحمانية ما لا يمكن لأعاظم العلماء كما قال سيد الرسل: " إن لي مع الله حالات لا يحتملها ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
وكل سالك إلى الله إنما يعرف من الألطاف الإلهية والنفحات الغيبية ما ظهر له على قدر استعداده، وأما ما فوقه فلا يحيط بحقيقته علما لكن قد يصدق به إيمانا بالغيب كما إنا نؤمن بالنبوة وخواصها ونصدق بوجودها ولا نعرف حقيقتهما كما لا يعرف الجنين حال الطفل والطفل حال المميز والمسير من العوام حال العلماء والعلماء حال الأنبياء والأولياء.
فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية مبذولة على الكل غير مضنون بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها لا يمكن أن يتجلى فيها شئ من الحقائق، فلا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضاد ذلك.
ثم ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره هو العلم الحقيقي
Bogga 38
النوراني الذي لا يقبل الشك وله غاية الظهور والانجلاء لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقة الربانية، وهو المراد بقوله (ع): " إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء " وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين (ع) بقوله: " أن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه " (إلى أن قال): " قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره، وقطع غماره (8)، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الجبال بأمتنها فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس " وفي كلام آخر له (ع) " قد أحيي قلبه وأمات نفسه، حتى دق جليله (9) ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وتثبت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى به ".
وقال (ع) في وصف الراسخين من العلماء: " هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى " وبالجملة ما لم يحصل للقلب التزكية لم يحصل له هذا القسم من المعرفة إذ العلم الحقيقي عبادة القلب وقربة السر، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الظاهر إلا بعد تطهيره من النجاسة الظاهرة فكذلك لا تصح عبادة الباطن إلا بعد تطهيره من النجاسة الباطنية التي هي رذائل الأخلاق وخبائث الصفات، كيف وفيضان أنوار العلوم على القلوب إنما هو بواسطة الملائكة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب " فإذا كان بيت القلب مشحونا بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة لم تدخل فيه الملائكة القادسة والحكم بثبوت النجاسة الظاهرة للمشترك، مع كونه مغسول الثوب نظيف البدن، إنما هو لسراية نجاسته الباطنية فقوله صلى الله
Bogga 39
عليه وآله وسلم " بني الدين على النظافة " يتناول زوال النجاستين. وما ورد من أن الطهور نصف الإيمان المراد به طهارة الباطن عن خبائث الأخلاق، وكان النصف الآخر تحليته بشرائف الصفات وعمارته بوظائف الطاعات.
وبما ذكر ظهر أن العلم الذي يحصل من طريق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحق اسم اليقين الحقيقي الذي يحصل للنفوس الصافية، فما يظنه كثير من أهل التعلق بقاذورات الدنيا أنهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه خلاف الواقع، لأن اليقين الحقيقي يلزمه " روح " (10) ونور وبهجة وسرور، وعدم الالتفات إلى ما سوى الله، والاستغراق في أبحر عظمة الله، وليس شئ من ذلك حاصلا لهم، فما ظنوه يقينا إما تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات.
والسر في ذلك أن منشأ العلم ومناطه هو التجرد كما بين في مقامه، فكلما تزداد النفس تجردا إيمانا ويقينا، ولا ريب في أنه ما لم ترتفع عنها أستار السيئات وحجب الخطيئات لم يحصل لها التجرد الذي هو مناط حقيقة اليقين فلا بد من المجاهدة العظيمة في التزكية والتحلية حتى تنفتح أبواب الهداية وتنضح سبل المعرفة كما قال سبحانه:
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (11).
فصل إن العمل نفس الجزاء كل نفس في يده الخلقة خالية عن الملكات بأسرها، وإنما تتحقق كل ملكة بتكرر الأفاعيل والآثار الخاصة به (12) بيان ذلك أن كل قول أو فعل ما دام وجوده في الأكوان الحسية لاحظ له من الثبات لأن الدنيا دار
Bogga 40
التجدد والزوال، ولكنه يحصل منه أثر في النفس، فإذا تكرر استحكم الأثر فصار ملكة راسخة مثاله الحرارة التي تحدث في الفحم فإنها ضعيفة أولا وإذا اشتدت تجمرت ثم استضاءت، ثم صارت صورة نارية محرقة لما قارنها مضيئة لما قابلها، وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة وصورا باطنة تكون مبادئ للآثار المختصة بها، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تعسر قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم وتنقيش نفسهم بكل صورة وصفة ويتعسر أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها.
ثم لا خلاف في أن هذه الملكات وأفعالها اللازمة لها إن كانت فاضلة كانت موجبة للالتذاذ والبهجة ومرافقة الملائكة والأخيار، وإن كانت ردية كانت مقتضية للألم والعذاب ومصاحبة الشياطين والأشرار، وإنما الخلاف في كيفية إيجابها للثواب أو العذاب، فمن قال إن الجزاء مغاير للعمل قال إن كل ملكة وفعل يصير منشأ لترتب ثواب أو عقاب مغاير له بفعل الله سبحانه على التفصيل الوارد في الشريعة.
ومن قال إن العمل نفس الجزاء قال إن الهيئات النفسانية اشتدت وصارت ملكة تصير متمثلة ومتصورة في عالم الباطن والملكوت بصورة يناسبها إذ كل شئ يظهر في كل عالم بصورة خاصة، فإن العلم في عالم اليقظة أمر عرضي يدرك بالعقل أو الوهم وفي عالم النور يظهر بصورة اللبن، فالظاهر في العالمين شئ واحد وهو العلم لكنه تجلى في كل عالم بصورة، والسرور يظهر في عالم النوم بصورة البكاء، ومنه يظهر أنه قد يسرك في عالم ما يسوءك في عالم آخر، فاللذات الجسمانية التي تسرك في هذا العالم تظهر في دار الجزاء بصورة تسوءك وتؤذيك، وتركها وتحمل مشاق العبادات والطاعات والصبر على المصائب والبليات يسرك في عالم الآخرة مع كونها مؤذية في هذا العالم.
ثم القائل بهذا المذهب قد يطلق على هذه الصورة اسم الملك إن كانت
Bogga 41
من فضائل الأخلاق أو فواضل الأعمال واسم الشيطان إن كانت من أضدادها وقد يطلق على الأولى اسم الغلمان والحور وأمثالهما، وعلى الثانية اسم الحيات والعقارب وأشباههما، ولا فرق بين الاطلاقين في المعنى، وإنما الاختلاف في الاسم.
وهذا المذهب يرجع إلى القول بتجسد الأعمال بصورة مأنوسة مفرحة أو صورة موحشة معذبة، وقد ورد بذلك أخبار كثيرة: منها: ما روى أصحابنا عن قيس بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
يا قيس " إن مع العز ذلا ومع الحياة موتا ومع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ رقيبا وعلى كل شئ حسيبا، وإن لكل أجل كتابا، وإنه لا بد لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما ألأمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا: فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك ". ومنها: ما استفاض من قولهم عليهم السلام " إن من فعل كذا خلق الله تعالى ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة ". ومنها:
ما ورد " إن الجنة قيعان وغراسها سبحان الله ": ومنها ما روي " إن الكافر خلق من ذنب المؤمن " ومنها: قولهم " المرء مرهون بعمله ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجري في بطنه نار جهنم " ويدل عليه قوله سبحانه:
(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (13).
وربما كان بقوله تعالى:
(ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) (14) وقوله تعالى:
(إنما تجزون ما كنتم تعملون) (15).
إشارة إليه حيث قال عز وجل (ما كنتم) ولم يقل بما كنتم.
وقال: فيثاغورس الحكيم " ستعارض لك في أفعالك وأقوالك
Bogga 42
وأفكارك (16) وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله وكرامته " انتهى.
وهذه الكلمات صريحة في أن مواد الإشخاص الأخروية هي التصورات الباطنية والنيات القلبية والملكات النفسية المتصورة بصور روحانية وجودها وجود إدراكي، والانسان إذا انقطع تعلقه عن هذه الدار وحان وقت مسافرته إلى دار القرار وخلص عن شواغل الدنيا الدنية وكشف عن بصره غشاوة الطبيعة، فوقع بصره على وجه ذاته والتفت إلى صفحة باطنه وصحيفة نفسه ولوح قلبه وهو المراد بقوله سبحانه:
(وإذا الصحف نشرت) (17) وقوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) (18).
صار إدراكه فعلا وعلمه عينا وسره عيانا، فيشاهد ثمرات أفكاره وأعماله، ويرى نتائج أنظاره وأفعاله ويطلع على جزاء حسناته وسيئاته، ويحضر عنده جميع حركاته وسكناته. ويدرك حقيقة قوله سبحانه:
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (19).
فمن كان في غفلة عن أحوال نفسه ومضيعا لساعات يومه وأمسه يقول:
(ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) (20) (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) (21).
وقد أيد هذا المذهب أعني صيرورة الملكات صورا روحانية باقية أبد الدهر موجبة للجبهة والالتذاذ والتوحش والتألم، بأنه لو لم تكن تلك الملكات
Bogga 43
والنيات باقية أبدا لم يكون للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضي للثواب أو العذاب نفس العمل والقول، وهما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب وهو باطل، وكيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذا منشأ الخلود هو الثبات في النيات والرسوخ في الملكات، ومع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى وأرفع من ذاته أبدا كما قال سبحانه:
(في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة) (22).
والسر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا ولم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبدا ولا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.
ثم الظاهر أن هذا المذهب - عند من قال به من أهل الشرائع - بيان لكيفية الثواب والعقاب الروحانيين مع إذعانه بالجنة والنار الجسمانيين " إذ لو كان مراده قصر اللذة والثواب والألم والعقاب والجنات والقصور والغلمان والحور والنار والجحيم والزقوم والضريع وساير ما ورد في الشريعة القادسة من أمور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين.
(تنبيه) الدنيا والآخرة متضادتان، وكل ما يقرب العبد إلى إحداهما يبعد عن الأخرى وبالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية والشواهد الذوقية والأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد إلى دار الطبيعة والغرور يبعده عن عالم البهجة والسرور، وبالعكس، فأسوأ الناس حالا من لم يعرف حقيقة الدنيا والآخرة وتضادهما ولم يخف سوء العاقبة وأفنى عمره في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش وقصر سعيه على جر المنفعة لبدنه من نيل شهوة أو بلوغ لذة أو اكتساب ترفع، ورئاسة أو جمع المال من غير تصور لما يصل إليه من فائدته، كما هو عادة أكثر أبناء الدنيا، ولم يعرف غير هذه الأمور من المعارف الحقيقية والفضائل الخلقية والأعمال الصالحة المقربة إلى عالم البقاء فكأنه يعلم خلوده في الدنيا، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل، ولا جزاء فعل، ولا يعتقد بما يرجوه المؤمنون
Bogga 44
ويؤمله المتقون من الخير الدائم، واللذات المخالفة لهذه اللذات الفانية التي يشارك فيها السباع والبهائم، فإذا أدركه الموت مات على حسرة وندامة آيسا من رحمة الله قائلا:
يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (22).
أعاذنا الله تعالى من سوء الخاتمة ووفقنا لتحصيل السعادة الدائمة.
فصل تأثير المزاج على الأخلاق للمزاج مدخلية تامة في الصفات: فبعض الأمزجة في أصل الخلقة مستعد لبعض الأخلاق، وبعضها مقتض لخلافه، فإنا نقطع بأن بعض الأشخاص بحسب جبلته، ولو خلي عن الأسباب الخارجية، بحيث يغضب ويخاف ويحزن بأدنى سبب، ويضحك بأدنى تعجب، وبعضهم بخلاف ذلك. وقد يكون اعتدال القوى فطريا بحيث يبلغ الإنسان كامل العقل، فاضل الأخلاق غالبة قوته العاقلة على قوتي الغضب والشهوة، كما في الأنبياء والأئمة عليهم السلام. وقد يكون مجاوزتها عن الوسط كذلك بحيث يبلغ ناقص العقل ردي الصفات مغلوبة عاقلته تحت سلطان الغضب والشهوة، كما في بعض الناس.
إلا أن الحق - كما يأتي - إمكان زوالها بالمعالجات المقررة في علم الأخلاق، فيجب السعي في إزالة نقائضها وتحصيل فضائلها. وعجبا لأقوام يبالغون في إعادة الصحة الجسمانية الفانية، ولا يجتهدون في تحصيل الصحة الروحانية الباقية، يطيعون قول الطبيب المجوسي في شرب الأشياء الكريهة ومزاولة الأعمال القبيحة، لأجل صحة زائلة، ولا يطيعون أمر الطبيب الإلهي لتحصيل السعادة الدائمة.
وبقاء النفس على النقصان إما لعدم صرفها طلب المقصود لملابسة العوائق والمواقع، أو مزاولة النقيض لتمكن موجبة، أو لكثرة اشتغالها بالشواغل المحسوسة، أو لضعف القوة العاقلة، فإن لم تدركها العناية الإلهية فلا يزال يتزايد النقصان ويبعد عن الكمال الذي خلق لأجله، إلى أن تدركها الهلاكة الأبدية والشقاوة السرمدية، نعوذ بالله من ذلك، وإن أدركته الرحمة
Bogga 45
الأزلية، فيصرف همه في إزالة النقائص، واكتساب الفضائل، فلا يزال يتصاعد من مرتبة من الكمال إلى فوقها، حتى يصير من أهل مشاهدة الجلال والجمال، ويتشرف بجوار الرب، المتعال ويصل إلى السرور الحقيقي.
الذي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإلى قرة الأعين التي يشير إليها في قوله سبحانه:
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (24).
فصل تأثير التربية على الأخلاق الخلق عبارة عن " ملكة للنفس مقتضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية " والملكة: كيفية نفسانية بطيئة الزوال. وبالقيد الأخير خرج الحال لأنها كيفية نفسانية سريعة الزوال، وسبب وجود الخلق إما المزاج كما مر، أو العادة بأن يفعل فعلا بالرؤية، أو التكلف ويصبر عليه إلى أن يصير ملكة له (25) ويصدر عنه بسهولة وإن كان مخالفا لمقتضى المزاج.
واختلف الأوائل في إمكان إزالة الأخلاق وعدمه، وثالث الأقوال أن بعضها طبيعي يمتنع زواله وبعضها غير طبيعي حاصل من أسباب خارجة يمكن زواله. ورجح المتأخرون الأول وقالوا: ليس شئ من الأخلاق طبيعيا ولا مخالفا للطبيعة، بل النفس بالنظر إلى ذاتها قابلة للاتصاف بكل من طرفي التضاد، إما بسهولة إن كان موافقا للمزاج، أو بعسر إن كان مخالفا له فاختلاف الناس في الأخلاق لاختلافهم في الاختيار والمزاولة لأسباب خارجة.
(حجة القول الأول) أن كل خلق قابل للتغيير وكل قابل للتغيير ليس طبيعيا فينتج لا شئ من الخلق بطبيعي والكبرى بديهية، والصغرى وجدانية.
فإنا نجد أن الشرير يصير بمصاحبته الخير خيرا، والخير بمجالسته الشرير
Bogga 46
شريرا. ونرى أن التأديب " في السياسات 26 " فيه أثر عظيم في زوال الأخلاق، ولولاه لم يكن لقوة الروية فائدة وبطلت التأديبات والسياسات ولغت لشرائع والديانات، ولما قال الله سبحانه: (قد أفلح من زكاها) (27).
ولما قال النبي صلى الله عليه وآله: حسنوا أخلاقكم، ولما قال: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
ورد: بمنع كلية الصغرى فإنا نشاهد أن بعض الأخلاق في بعض الأشخاص غير قابل للتبديل (لا) سيما ما يتعلق بالقوة النظرية، كالحدس والتحفظ، وجودة الذهن، وحسن التعقل، ومقابلاتها كما هو معلوم من حال بعض الطلبة، فإنه لا ينجح سعيهم في التبديل مع مبالغتهم في المجاهدة.
وما قيل: من لزوم تعطل القوة المميزة وبطلان التأديب والسياسات مردود: بأن هذا اللزوم إذا لم يكن شئ من الأخلاق قابلا للتغيير، وأما مع قبول بعضها أو أكثرها له فلا يلزم شئ مما ذكر، ولو كان عدم قبول بعض الأخلاق للتغيير موجبا لبطلان علم الشرائع والأخلاق لكان عدم قبول بعض الأمراض للصحة مقتضيا لبطلان علم الطب، مع إنا نعلم بديهة أن بعض الأمراض لا يقبل العلاج.
(وحجة القول الثاني) إن الأخلاق بأسرها تابعة للمزاج، والمزاج لا يتبدل، واختلاف مزاج شخص واحد في مراتب سنة لا ينافي ذلك، لجواز تابعيتها لجميع مراتب عرض المزاج، وأيد ذلك بقوله (ص):
(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام) وبقوله (ص): (إذا سمعتم أن جبلا زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوه، فإنه سيعود إلى ما جبل عليه).
و (الجواب) إن توابع المزاج من المقتضيات التي يمكن زوالها لا من اللوازم التي يمتنع انفكاكها، لما ثبت في الحكمة من أن النفوس الإنسانية متفقة في الحقيقة، وفي بدو فطرتها خالية عن جميع الأخلاق والأحوال كما هو شأن العقل الهيولائي. ثم ما يحصل لها منهما أما من مقتضيات الاختيار
Bogga 47
والعادة أو استعدادات الأبدان والأمزجة، والمقتضي ما يمكن زواله كالبرودة للماء، لا ما يمتنع انفكاكه كالزوجة للأربعة. والخبر الأول لا يفيد المطلوب بوجه. والثاني مع عدم ثبوته عندما يدل على خلاف مطلوبهم، لأن قوله:
(سيعود إلى ما جبل عليه) يفيد إمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما، وبعد إزالته بها يعود بارتفاعها كبرودة الماء التي تزول ببعض الأسباب وتعود بعد زوال السبب، فلو دام على حفظ الأسباب وإبقائها لم يحصل العود أصلا.
وإذ ثبت بطلان القولين الأولين فالحق القول بالتفصيل، يعني قبول بعض الأخلاق بل أكثرها بالنسبة إلى الأكثر التبديل للحس والعيان، ولبطلان السياسات والشرائع لولاه ولإمكان تغير خلق البهائم، إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى الأنس والفرس من الجماح إلى الانقياد والكلب من الهراشة إلى التأدب، فكيف لا يمكن في حق الإنسان، وعدم قبول بعضها بالنسبة إلى البعض له، للمشاهدة والتجربة، وهذا البعض مما لا يكون متعلق التكليف كالأخلاق المتعلقة بالقوة العقلية من الذكاء والحفظ وحسن التعقل وغيرها.
والتصفح يعطي اختلاف الأشخاص والأخلاق في الإزالة والاتصاف بالضد بالإمكان والتعذر والسهولة والتعسر وبالتقليل والرفع بالمرة، ولذا لو تصفحت أشخاص العالم لم تجد شخصين متشابهين في جميع الأخلاق، كما لا تجد اثنين متماثلين في الصورة. ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله:
" أعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وقال أرسطاليس: " يمكن صيرورة الأشرار أعيارا بالتأديب إلا أن هذا ليس كليا، فإنه ربما أثر في بعضهم بالزوال وفي بعضهم بالتقليل وربما لم يؤثر أصلا ".
ثم المراد من التغيير ليس رفع الغضب والشهوة مثلا وإماطتهما بالكلية فإن ذلك محال لأنهما مخلوقتان لفائدة ضرورية في الجبلة، إذ لو انقطع الغضب عن الإنسان بالكلية لم يدفع عن نفسه ما يهلكه ويؤذيه وامتنع جهاد الكفار، ولو انعدم عنه شهوة الطعام لم تبق حياته، ولو بطل عنه شهوة الوقاع بالمرة لضاع النسل، بل المراد ردهما من الإفراط والتفريط إلى
Bogga 48
الوسط فالمطلوب في صفة الغضب خلو النفس عن الجبن والتهور، والاتصاف بحس الحمية، وهو أن يحصل إذا استحسن حصوله شرعا وعقلا، ولا يحصل إذا استحسن عدمه كذلك. وكذا الحال في صفة الشهوة.
ولا ريب في أن رد بعض الموجودات الناقصة من القوى وغيرها إذا وجدت فيه قوة الكمال إلى كماله ممكن إذا كان له شرط يرتبط باختيار العبد، فكما أن النواة يمكن أن تصير نخلا بالتربية، لوجود قوة النخلية فيه، وتوقف فعليتها على شرط التربية التي بيد العبد، فكذلك يمكن تعديل قوتي الغضب والشهوة بالرياضة والمجاهدة، لوجود قوة التعديل فيهما، وتوقف فعليتهما على شرط ارتبط باختيار العبد أعني الرياضة والمجاهدة، وإن لم يمكن لنا قلعهما بالكلية، كما لا يمكن لنا إعدام شئ من الموجودات، ولا إيجاد شئ من المعدومات.
ثم شرائط الرد تختلف بالنسبة إلى الأشخاص والأخلاق، ولذا ترى أن التبديل يختلف باختلاف مراتب السياسيات والتأديب، فيمكن أن لا يرتفع مذموم خلق بمرتبة من التأديب، ويرتفع بمرتبة منه فوقها، والأسهل قبول لكل خلق الأطفال لخلو نفوسهم عن الأضداد المانعة من القبول، فيجب على الآباء تأديبهم بالآداب الجميلة، وصونهم عن ارتكاب الأعمال القبيحة، حنى تعتاد نفوسهم بترك الرذائل، وارتكاب الفضائل، والمؤدب الأول هو الناموس الإلهي، والثاني أولو الأذهان القويمة من أهل المعارف الحقة، فيجب تقييد من يراد تأديبه بالنواميس الربانية أولا، وتنبيهه بالحكم والمواعظ ثانيا.
فصل شرف علم الأخلاق لشرف موضوعه وغايته لما عرفت أن الحياة الحقيقية للانسان تتوقف على تهذيب الأخلاق الممكن بالمعالجات المقررة في هذه الصناعة، تعرف أنها أشرف العلوم وأنفعها لأن شرف كل علم إنما هو بشرف موضوعه أو غايته، فشرف صناعة الطب على صناعة الدباغة بقدر شرف بدن الإنسان وإصلاحه على جلود البهائم، وموضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبه، وهو أشرف الأنواع الكونية كما برهن عليه في العلوم العقلية، وغايته إكمال وإيصاله
Bogga 49