ـ[جامع الرسائل]ـ
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: ٧٢٨هـ)
المحقق: د. محمد رشاد سالم
الناشر: دار العطاء - الرياض
الطبعة: الأولى ١٤٢٢هـ - ٢٠٠١م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Bog aan la aqoon
رِسَالَة فِي قنوت الْأَشْيَاء كلهَا لله تَعَالَى
1 / 1
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه نستعين وَبِه الْقُوَّة
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا
فصل
فِي قنوت الْأَشْيَاء لله ﷿ وإسلامها وسجودها لَهُ وتسبحها لَهُ
الْقُنُوت فِي الْقُرْآن
فَإِن هَذِه الْأَرْبَعَة قد ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى ﴿وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ [سُورَة الْبَقَرَة ١١٦، ١١٧] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الرّوم ﴿وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ﴾ [سُورَة الرّوم ٢٦، ٢٧]
الْإِسْلَام
وَأما الْإِسْلَام فَقَالَ تَعَالَى ﴿أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ﴾ [سُورَة آل عمرَان ٨٣]
السُّجُود
وَأما السُّجُود فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال﴾ [سُورَة الرَّعْد ١٥] وَقَالَ ﴿أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل
1 / 3
سجدا لله وهم داخرون وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [سُورَة النَّحْل ٤٨، ٤٩] وَقَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب [سُورَة الْحَج ١٨]
التَّسْبِيح
وَأما التَّسْبِيح فَقَالَ تَعَالَى تسبح لَهُ السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سُورَة الْإِسْرَاء ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض [سُورَة الصَّفّ ١] [سُورَة الْحَشْر ١] فِي موضِعين وسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض [سُورَة الْحَدِيد ١] ويسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض [سُورَة الْجُمُعَة ١] [سُورَة التغابن ١] فِي موضِعين فَخمس سور افتتحت بِذكر تسبح مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ وَقَالَ ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور ٤١]
فَأَما قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ [سُورَة الْبَقَرَة ١١٦] فَهُوَ نَظِير قَوْله وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتٍ الرَّحْمَن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا [سُورَة مَرْيَم ٨٨ - ٩٥] وَقد قَالَ تَعَالَى قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ [سُورَة يُونُس ٦٨]
1 / 4
وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون إِلَى قَوْله وهم من خَشيته مشفقون [سُورَة الْأَنْبِيَاء ٢٦ - ٢٩]
الْقُنُوت فِي اللُّغَة
والقنوت فِي اللُّغَة دوَام الطَّاعَة والمصلى إِذا طَال قِيَامه أَو رُكُوعه أَو سُجُوده فَهُوَ قَانِت فِي ذَلِك كُله قَالَ تَعَالَى أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه [سُورَة الزمر ٩] فَجعله قَانِتًا فِي حَال السُّجُود وَالْقِيَام
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح سُئِلَ رَسُول الله ﷺ أَي الصَّلَاة أفضل فَقَالَ طول الْقُنُوت وَلم يرد بِهِ طول الْقيام فَقَط بل طول الْقيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود كَمَا كَانَت صَلَاة النَّبِي ﷺ كَانَت معتدلة إِذا أَطَالَ الْقيام أَطَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود
وَقَالَ تَعَالَى إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا [سُورَة النَّحْل ١٢٠] وَقَالَ تَعَالَى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بِمَا حظف الله [سُورَة النِّسَاء ٣٤] وَقَالَ تَعَالَى عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات قانتات [سُورَة التَّحْرِيم ٥] وَقَالَ تَعَالَى إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات والقانتين والقانتات [سُورَة الْأَحْزَاب ٣٥] وسمى إطالة الْقيام فِي الصَّلَاة قنوتا لِأَنَّهُ يُطِيل فِيهِ الطَّاعَة وَلَو صلى قَاعِدا لقنت وَهُوَ قَاعد وَكَذَلِكَ إِذا صلى على جنب قنت وَهُوَ على جنب وَالْقِيَام قبل الرُّكُوع يُسمى أَيْضا قنوتا
1 / 5
قَالَ ابْن قُتَيْبَة لَا أرى أصل الْقُنُوت إِلَّا الطَّاعَة لِأَن جَمِيع الْخلال من الصَّلَاة وَالْقِيَام فِيهَا وَالدُّعَاء وَغير ذَلِك يكون عَنْهَا
وَقَالَ أَبُو الْفرج قَالَ الزّجاج الْقُنُوت هُوَ فِي اللُّغَة بمعنيين أَحدهمَا الْقيام وَالثَّانِي الطَّاعَة وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة والإستعمال أَن الْقُنُوت الدُّعَاء فِي الْقيام فالقانت الْقَائِم بِأَمْر الله وَيجوز أَن يَقع فِي جَمِيع الطَّاعَات لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن قيَاما على الرجلَيْن فَهُوَ قيام بِالنِّيَّةِ
قلت هَذَا ضَعِيف لَا يعرف فِي اللُّغَة أَن مُجَرّد الْقيام يُسمى قنوتا وَالرجل يقوم مَاشِيا وَقَائِمًا فِي أُمُور وَلَا يُسمى قَانِتًا وَهُوَ فِي الصَّلَاة يُسمى قَانِتًا لكَونه مُطيعًا عابدا وَلَو قنت قَاعِدا ونائما سمي قَانِتًا وَقَوله تَعَالَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ [سُورَة الْبَقَرَة ٢٣٨] يدل على أَنه لَيْسَ هُوَ الْقيام وَإِنَّمَا هُوَ صفة فِي الْقيام يكون بهَا الْقَائِم قَانِتًا وَهَذِه الصّفة تكون فِي السُّجُود أَيْضا كَمَا قَالَ أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا
1 / 6
الْقُنُوت عِنْد ابْن تَيْمِية هُوَ الطَّاعَة
فَقَوْل الْقَائِل إِن الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَنه الدُّعَاء فِي الْقيام إِنَّمَا اخذه من كَون هَذَا الْمَعْنى شاع فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء إِذا تكلمُوا فِي الْقُنُوت وَالصَّلَاة وَهَذَا عرف خَاص وَمَعَ هَذَا فالفقهاء يذكرُونَ الْقُنُوت سَوَاء صلى قَائِما أَو قَاعِدا أَو مُضْطَجعا لَكِن لما كَانَ الْفَرْض لَيْسَ يَصح أَن يصليه إِلَّا قَائِما وَصَلَاة الْقَاعِد على النّصْف من صَلَاة الْقَائِم صَار الْقُنُوت فِي الْقيام أَكثر وَأشهر وَإِلَّا فَلفظ الْقُنُوت فِي الْقُرْآن واللغة لَيْسَ مَشْهُورا فِي هَذَا الْمَعْنى بل وَلَا أُرِيد بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَلَا هُوَ أَيْضا مُشْتَركا بل اللَّفْظ بِمَعْنى الطَّاعَة أَو الطَّاعَة الدائمة وَلِهَذَا يفسره الْمُفَسِّرُونَ بذلك
وَقد رُوِيَ فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من النُّسْخَة المصرية الَّتِي يرْوى مِنْهَا التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث ابْن وهب أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن دَرَّاجًا أَبَا السَّمْح حَدثهُ عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله ﷺ قَالَ كل حرف فِي الْقُرْآن يذكر فِيهِ الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة
1 / 7
وَفِي تَفْسِير ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فالصالحات قانتات [سُورَة النِّسَاء ٣٤] مطيعات
قَالَ ابْن أبي حَاتِم وروى عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَأبي مَالك وَعَطَاء وَقَتَادَة السّديّ مثل ذَلِك
وروى عَن مقَاتل بن حَيَّان قَالَ مطيعات لله ولأزواجهن فِي الْمَعْرُوف
وروى عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله والقانتين والقانتات قَالَ يَعْنِي المطيعين والمطيعات
قَالَ وروى عَن قَتَادَة وَالسُّديّ وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم مثل ذَلِك وروى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الْعَالِيَة فِي قَوْله يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك [سُورَة آل عمرَان ٤٣] قَالَ اركدي لِرَبِّك وَعَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ ركدت فِي مِحْرَابهَا قَائِمَة وراكعة وساجدة حَتَّى نزل مَاء الْأَصْفَر فِي قدميها
وَعَن الْحسن أَنه سُئِلَ عَن قَوْله اقنتي لِرَبِّك واسجدي قَالَ يَقُول اعبدي لِرَبِّك
وَعَن لَيْث عَن مُجَاهِد قَالَ كَانَت تقوم حَتَّى تتورم قدماها
وَقَوله تَعَالَى أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل قَالَ ابْن أبي حَاتِم تقدم تَفْسِير القانت فِي غير مَوضِع القانت الَّذِي يُطِيع الله وَرَسُوله
وروى عَن أَحْمد بن سِنَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عَن فراس عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ القانت الَّذِي يُطِيع الله وَرَسُوله
1 / 8
فَهَذَا تَفْسِير السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ لألفاظ الْقُنُوت فِي الْقُرْآن
فصل
وَكَذَلِكَ فسروا الْقُنُوت فِي قَوْله بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون [سُورَة الْبَقَرَة ١١٦] لَكِن تنوع كَلَامهم فِي طَاعَة الْمَخْلُوقَات كلهَا لما رَأَوْا أَن من الْجِنّ وَالْإِنْس من يَعْصِي أَمر الله الَّذِي بعث بِهِ رسله فَذكر كل وَاحِد نوعا من الْقُنُوت الَّذِي يعم الْمَخْلُوقَات
رِوَايَة ابْن أبي حَاتِم أوجه تَفْسِير لفظ الْقُنُوت
قَالَ ابْن أبي حَاتِم اخْتلف فِي قَوْله كل لَهُ قانتون على أوجه وروى بِإِسْنَادِهِ الحَدِيث الْمَرْفُوع كل حرف فِي الْقُرْآن يذكر فِيهِ الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة
الْوَجْه الأول الطَّاعَة
وروى عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قانتون قَالَ مطيعون يَقُول طَاعَة الْكَافِر فِي سُجُوده سُجُود ظله وَهُوَ كَارِه
وَأَيْضًا عَن شريك عَن خصيف عَن مُجَاهِد كل لَهُ قانتون قَالَ مطيعون كن إنْسَانا فَكَانَ وَقَالَ كن حمارا فَكَانَ فَفَسَّرَهَا مُجَاهِد بِالسُّجُود طَوْعًا وَكرها وَفسّر الكره بسجوده ظله وفسرها أَيْضا بِطَاعَة أمره الكوني وَهُوَ قَوْله إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون [سُورَة يس ٨٢] وَهَذَا الْأَمر الكوني لَا يخرج عَنهُ أحد
1 / 9
وَقد ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أَنه كَانَ يَقُول أعوذ بِكَلِمَات الله التامات الَّتِي لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ذكرهمَا ابْن الْأَنْبَارِي مَعَ ذكره وَجها آخر أَنَّهَا خَاصَّة قَالَ أَبُو الْفرج فَإِن قيل كَيفَ عَم بِهَذَا القَوْل وَكثير من الْخلق لَيْسَ لَهُ بمطيع فَفِيهِ ثَلَاثَة أجوبه
أَحدهَا أَن يكون ظَاهرهَا الْعُمُوم وَمَعْنَاهَا معنى الْخُصُوص وَالْمعْنَى كل أهل الطَّاعَة لَهُ قانتون وَالثَّانِي أَن الْكفَّار تسْجد ظلالهم لله بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال والعشيات فنسب الْقُنُوت إِلَيْهِم بذلك وَالثَّالِث أَن كل مَخْلُوق قَانِت لَهُ بأثر صنعه فِيهِ وَجرى أَحْكَامه عَلَيْهِ فَذَلِك دَلِيل على إِلَه كَونه ذكرهن ابْن الْأَنْبَارِي
الْوَجْه الثَّانِي الصَّلَاة
قَالَ ابْن أبي حَاتِم الْوَجْه الثَّانِي حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج ثَنَا أَسْبَاط عَن مطرف عَن عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قانتون مصلون
1 / 10
قلت وَهَذَا من جنس وصفهَا بِالسُّجُود لَهُ وَالتَّسْبِيح قَالَ تَعَالَى ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه [سُورَة النُّور ٤١] لَكِن قد يُقَال فَالصَّلَاة صَلَاة الْمَخْلُوقَات وَالْمُؤمنِينَ وَلم يرد أَن الْكَافرين يصلونَ فَتكون الْآيَة خَاصَّة وَلِهَذَا حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ هِيَ خَاصَّة
الْوَجْه الثَّالِث الْإِقْرَار بالعبودية
قَالَ وَالْوَجْه الثَّالِث ثمَّ روى بِالْإِسْنَادِ الْمَرْوِيّ عَن الْحُسَيْن بن وَاقد عَن أَبِيه عَن يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة كل لَهُ قانتون قَالَ مقرون بالعبودية قَالَ وروى عَن أبي مَالك نَحوه
قلت وَهَذَا إِخْبَار عَمَّا فطروا عَلَيْهِ من الْإِقْرَار بِأَن الله رَبهم كَمَا قَالَ وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى الْآيَة [سُورَة الْأَعْرَاف ١٧٢] فَإِن هَذِه الْآيَة بَينه فِي إقرارهم وشهادتهم على أنفسهم بالمعرفة الَّتِي فطروا عَلَيْهَا أَن الله رَبهم وَقَالَ ﷺ كل مولولد مولد على الْفطْرَة
وَطَائِفَة من الْعلمَاء جعلُوا هَذَا الْإِقْرَار لما اسْتخْرجُوا من صلب آدم وَأَنه أنطقهم وأشهدهم لَكِن هَذَا لم يثبت بِهِ خبر صَحِيح عَن النَّبِي ﷺ وَالْآيَة لَا تدل عَلَيْهِ
1 / 11
وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث الْمَعْرُوفَة أَنه استخرجهم وأراهم لآدَم وميز بَين أهل الْجنَّة وَأهل النَّار مِنْهُم فعرفوا من يَوْمئِذٍ هَذَا فِيهِ مأثور من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره بِإِسْنَاد جيد وَهُوَ أَيْضا من حَدِيث عمر بن الْخطاب الَّذِي رَوَاهُ أهل السّنَن وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ وَهُوَ يصلح للإعتضاد
وَأما إنطاقهم وإشهادهم فروى عَن بعض السّلف وَقد روى عَن أبي وَابْن عَبَّاس وَبَعْضهمْ رَوَاهُ مَرْفُوعا من طَرِيق ابْن عَبَّاس وَغَيره وروى ذَلِك الْحَاكِم فِي صَحِيحه لَكِن هَذَا ضَعِيف وللحاكم مثل هَذَا يرْوى أَحَادِيث
1 / 12
مَوْضُوعَة فِي صَحِيحه مثل حَدِيث زريب بن برثملي وَهَامة بن الهيم وَغير ذَلِك وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر
1 / 13
لَكِن كَون الْخلق مفطورين على الْإِقْرَار بالخالق أَمر دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ مَعْرُوف بدلائل الْعُقُول كَمَا قد بسط فِي مَوَاضِع وَبَين أَن الْإِقْرَار بالخالق فطري ضَرُورِيّ فِي جبلات النَّاس لَكِن من النَّاس من فَسدتْ فطرته فَاحْتَاجَ إِلَى دَوَاء بِمَنْزِلَة السفسطة الَّتِي تعرض لكثير من النَّاس فِي كثير من المعارف الضرورية كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع
وَهَؤُلَاء يَحْتَاجُونَ إِلَى النّظر وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور النَّاس أَن أصل الْمعرفَة قد يَقع ضَرُورِيًّا فطريا وَقد يحْتَاج فِيهِ إِلَى النّظر والإستدلال
وَكثير من أهل الْكَلَام يَقُول إِنَّه لَا يجوز أَن تقع الْمعرفَة ضَرُورِيَّة بل لَا تقع إِلَّا بِنَظَر وَكسب قَالُوا لِأَنَّهَا لَو وَقعت ضَرُورَة لارتفع التَّكْلِيف والإمتحان وَمِنْهُم من ادّعى انْتِفَاء ذَلِك فِي الْوَاقِع وَهَذَا ضَعِيف لِأَن الإمتحان والتكليف الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل كَانَ بِأَن يعبدوا الله وَحده لَا يشركُونَ بِهِ إِلَى هَذَا دَعَا عَامَّة الرُّسُل وَمن كَانَ من النَّاس جاحدا دَعوه إِلَى الإعتراف
1 / 14
بالصانع كفرعون وَنَحْوه مَعَ أَنه كَانَ فِي الْبَاطِن عَارِفًا وَإِنَّمَا جحد ظلما وعلوا كَمَا قَالَ تَعَالَى وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [سُورَة النَّمْل ١٤] وَقَالَ لَهُ مُوسَى لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض بصائر [سُورَة الْإِسْرَاء ١٠٢]
وَخَاتم الرُّسُل دَعَا النَّاس إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَقَالَ لِمعَاذ فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِنَّك تَأتي قوما أهل كتاب فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك فأعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَإِن هم أطاعوا لَك فأعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فقرائهم
وَلِهَذَا قَالَت الرُّسُل لقومهم مَا أخبر الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله ﷿ ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم إِلَى قَوْله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ [سُورَة إِبْرَاهِيم ٩ - ١١]
1 / 15
وَأَيْضًا فَإِن المعارف لَا بُد أَن تَنْتَهِي إِلَى مُقَدمَات ضَرُورِيَّة وهم لَا يؤمرون بتحصيل الْحَاصِل بل يؤمرون بِالْعَمَلِ بموجبها وبعلوم أُخْرَى يكتسبونها بهَا
وَأَيْضًا فَإِن أَكثر النَّاس غافلون عَمَّا فطروا عَلَيْهِ من الْعلم فَيذكرُونَ بِالْعلمِ الَّذِي فطروا عَلَيْهِ وأصل الْإِقْرَار من هَذَا الْبَاب وَلِهَذَا تُوصَف الرُّسُل بِأَنَّهُم يذكرُونَ ويصف الله تَعَالَى آيَاته بِأَنَّهَا تذكرة وتبصرة كَمَا فِي قَوْله تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [سُورَة ق ٨]
فَإِذا كَانَ من المعارف مَا هُوَ ضَرُورِيّ بالِاتِّفَاقِ وَلم يكن ذَلِك مَانِعا من الْأَمر وَالنَّهْي إِمَّا بتذكرة وَإِمَّا بالإستدلال فَيُؤْمَر النَّاس تَارَة بالتذكرة وَتارَة بالتبصرة ثمَّ يُؤمر النَّاس أَن يقرُّوا بِمَا علموه ويشهدوا بِهِ فَلَا يعاندوه وَلَا يجحدوه وَأكْثر الْكفَّار جَحَدُوا مَا علموه
والإعتراف بِالْحَقِّ الَّذِي يعلم وَالشَّهَادَة بِهِ والخضوع لصَاحبه لَا بُد مِنْهُ فِي الْإِيمَان وإبليس وَفرْعَوْن وَغَيرهمَا كفرُوا للعناد والإستكبار كَمَا ذكر الله تَعَالَى ذَلِك فِي كِتَابه
وَلَكِن الْجَهْمِية لما ظنت أَن مُجَرّد معرفَة الْقلب هِيَ الْإِيمَان أَرَادوا أَن يجْعَلُوا ذَلِك مكتسبا وَزَعَمُوا أَن من كفره الشَّرْع كإبليس وَفرْعَوْن لم يكن فِي قلبه من الْإِقْرَار شَيْء كَمَا زَعَمُوا أَنه يُمكن أَن يقوم بقلب العَبْد إِيمَان تَامّ مَعَ كَونه يعادي الله وَرَسُوله ويسب الله وَرَسُوله فِي الظَّاهِر من غير إِكْرَاه
1 / 16
وَلِهَذَا كفر وَكِيع بن الْجراح وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة من قَالَ بقَوْلهمْ كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي موَاضعه
وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان قَول من قَالَ من السّلف كعكرمة وَأبي مَالك كل لَهُ قانتون أَي مقرون لَهُ بالعبودية
الْوَجْه الرَّابِع الْقيام يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ ابْن أبي حَاتِم وَالْوَجْه الرَّابِع ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوف عَن الرّبيع بن أنس كل لَهُ قانتون قَالَ كل لَهُ قَائِم يَوْم الْقِيَامَة
الْوَجْه الْخَامِس قَول الْإِخْلَاص
وَالْخَامِس ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك عَن شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير كل لَهُ قانتون بقول الْإِخْلَاص
قلت وَهَذَا إِن أَرَادَ بِهِ اعترافهم بِأَنَّهُ رَبهم وَأَنَّهُمْ إِذا اضطروا دعوا الله
1 / 17
مُخلصين لَهُ الدَّين فَهُوَ من جنس قَول عِكْرِمَة وَإِلَّا فالإخلاص الَّذِي أمروا بِهِ وَهُوَ أَن يعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدَّين إِنَّمَا قَامَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَهَذَا إِنَّمَا يكون على قَول من يزْعم أَن الْآيَة خَاصَّة وَلم يذكر ابْن أبي حَاتِم هَذَا صَرِيحًا عَن أحد من السّلف إِلَّا أَن يتَأَوَّل على ذَلِك قَول ابْن عَبَّاس أَو قَول سعيد
أَقْوَال الْمُفَسّرين
هَذَا وَلم يذكر أَبُو الْفرج هَذَا عَن أحد من السّلف لم يذكرهُ إِلَّا فِيمَا تقدم عَن ابْن الْأَنْبَارِي بل قَالَ وللمفسرين فِي المُرَاد بِالْقُنُوتِ هَهُنَا ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه الطَّاعَة قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن جُبَير وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالثَّانِي الْإِقْرَار بِالْعبَادَة قَالَه عِكْرِمَة وَالسُّديّ وَالثَّالِث الْقيام قَالَه الْحسن وَالربيع
قَالَ وَفِي معنى الْقيام قَولَانِ أَحدهمَا أَنه الْقيام لَهُ بِالشَّهَادَةِ بالعبودية وَالثَّانِي أَنه الْقيام بَين يَدَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة
لَكِن طَائِفَة من الْمُفَسّرين ذكرُوا عَن الْمُفَسّرين قَوْلَيْنِ كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا قَالُوا وَاللَّفْظ لِلْبَغوِيِّ كل لَهُ قانتون قَالَ مُجَاهِد وَعَطَاء وَالسُّديّ مطيعون وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُقَاتِل مقرون بالعبودية وَقَالَ ابْن كيسَان قائمون بِالشَّهَادَةِ وأصل الْقُنُوت الْقيام قَالَ النَّبِي ﷺ أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت
هَل الْقُنُوت خَاص أم عَام؟
قَالَ وَاخْتلفُوا فِي حكم الْآيَة فَذهب جمَاعَة إِلَى أَن حكم الْآيَة خَاص قَالَ مقَاتل هُوَ رَاجع إِلَى عُزَيْر والمسيح وَالْمَلَائِكَة وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ هُوَ رَاجع إِلَى أهل طَاعَته دون سَائِر النَّاس
قَالَ وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن حكم الْآيَة عَام فِي جَمِيع الْخلق لِأَن لفظ الْكل يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بالشَّيْء بِحَيْثُ لَا يشذمنه شَيْء ثمَّ سلكوا فِي الْكفَّار طَرِيقين قَالَ مُجَاهِد تسْجد ظلالهم لله ﷿ على كره مِنْهُم قَالَ تَعَالَى وظلالهم بِالْغُدُوِّ
1 / 18
وَالْآصَال [سُورَة الرَّعْد ١٥] وَقَالَ السّديّ هَذَا يَوْم الْقِيَامَة دَلِيله وعنت الْوُجُوه للحي القيوم [سُورَة طه ١١١] وَقيل قانتون مذللون مسخرون لما خلقُوا لَهُ
تَعْلِيق ابْن تَيْمِية
قلت من قَالَ بالخصوص فَإِنَّهُ قد ينظر إِلَى سَبَب الْآيَة وَهُوَ أَنهم قَالُوا اتخذ الله ولدا وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ فِي الْمَلَائِكَة والأنبياء كالمسيح والعزير فَبين سُبْحَانَهُ أَن الَّذين قيل فيهم إِنَّه اتخذهم أَوْلَادًا هم عباد قانتون لَهُ كَمَا ذكر فِي الْأَنْبِيَاء وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون [سُورَة الْأَنْبِيَاء ٢٦ - ٢٨] فَإِن الضَّمِير فِي قَوْله وَقَالُوا عَائِد على الْمُشْركين وهم إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك فِي الْمَلَائِكَة وَأما الْمَسِيح وعزير فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك فيهمَا أهل الْكتاب وَسِيَاق الْآيَة يبين ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون [سُورَة الْأَنْبِيَاء ١٦ - ٢٦]
وَقَوله تَعَالَى وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين وَقَوله لهوا قد فسر بِالْوَلَدِ وَالْمَرْأَة وَفسّر باللعب فَإِن هَذِه الْآيَة نَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَة الدُّخان ٣٨ ٣٩ وَنَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا الْآيَة [سُورَة ص ٢٧] وَنَظِير قَوْله وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِن السَّاعَة لآتية فاصفح الصفح الْجَمِيل [سُورَة الْحجر ٨٥] وَمثله قَوْله تَعَالَى أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا الْآيَة [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ ١١٥]
فَقَوله وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين [سُورَة الْأَنْبِيَاء ١٦]
1 / 19
فنزه نَفسه أَن يكون فعله كَفعل اللاعب العابث الَّذِي لَا يقْصد غَايَة محمودة يُرِيد سوق الْوَسَائِل إِلَيْهَا فَإِن هَذَا فعل الجاد الَّذِي يَجِيء بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم لما آتَاهُ الله رشده من قبل التَّوْرَاة وَالْقُرْآن إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون قَالُوا وجدنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين إِلَى قَوْله أم أَنْت من اللاعبين قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطرهن وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين [سُورَة الْأَنْبِيَاء ٥٢ - ٥٦] فَهُوَ لما قَالَ مَا قَالَ قَالُوا جئتنا بِالْحَقِّ أم أَنْت من اللاعبين الْآيَة ٥٥ فَالَّذِي يَأْتِي بِالْحَقِّ خلاف اللاعب فَإِنَّهُ يقْصد أَن يخبر بِصدق وَيَأْمُر بِمَا ينفع وَهُوَ الْعدْل بِخِلَاف اللاعب العابث فَإِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُوده هَذَا بل اللَّهْو واللعب
وَلِهَذَا قد يشْتم الْإِنْسَان على وَجه اللّعب وَيفْعل بِهِ أَفعَال مُنكرَة فَلَا يُنكر ذَلِك كَمَا يُنكره من الجاد المحق وَلِهَذَا كَانَ عَامَّة اللَّهْو بَاطِلا لَيْسَ لَهُ مَنْفَعَة كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ كل لَهو يلهو بِهِ الرجل لَهو بَاطِل إِلَّا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امْرَأَته فَإِنَّهُ من الْحق فَالْحق ضد الْبَاطِل وَاللَّهْو بَاطِل وَلِهَذَا تنزه سُبْحَانَهُ عَن أَن يخلقهما بَاطِلا
وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين فاللاعب صَاحب بَاطِل لَا صَاحب حق وَلِهَذَا لما دخل عمر على النَّبِي ﷺ وَعِنْده الْأسود بن سريع ينشده فأسكته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا قَالَ من هَذَا الَّذِي تسكتني لَهُ قَالَ هَذَا رجل لَا يحب الْبَاطِل فَإِن عمر كَانَ لَا يُحِبهُ وَلَا يصبر على صَاحبه وَالنَّبِيّ
1 / 20