[خطبة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى أسبغ على أهل مكة بمجاورة بيته الأمين مواد الفضل والنعمة.
وجعلهم أهله وخاصته فخرا لهم وتنويها بشأنهم لما اقتضته الحكمة. وخص من شاء منهم بباهر العز والجلال ودفع عنه كل بؤس ونقمة. وحباه بمزيد العناية والشرف فصار له جارا وجار الله جدير بوافر الإنعام والحرمة.
أحمده على انتظامى فى هذا السلك، وأشكره على تفضلاته الجمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذى أكرمنا بخير نبى كنا به خير أمة. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث فى هذه البقعة المطهرة لكشف غياهب الشك والظلمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الأئمة، الذين ناصروه وظاهروه على عدوه وقاموا فى مصالحه على همة، صلاة وسلاما دائمين مقرونين بعظيم البركة والرحمة.
أما بعد: فيقول الفقير إلى عفو الله ولطفه الخفى، محمد جار الله بن ظهيرة القرشى المكى الحنفى: اعلم أنه لا يخفى على كل عاقل من ذوى الألباب السليمة، والأفكار الرائقة الحسنة المستقيمة، أن الكعبة الشريفة هى أفضل مساجد الأرض وأنها بيت الله الحرام، وقبلة لجميع الأنام. وأن مكة المشرفة هى البلد الأمين، ومسقط رأس سيد المرسلين. وأهلها هم خاصة الله من البشر. الحائزون نهاية الشرف والفخر والظفر.
والمسجد الحرام فضله لا ينكر. وما طوى من فضائله لم يزل ينشر. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى، وقد تصدى لتأليف فضائل مكة وأخبارها جمع كثير من فضلاء المتقدمين أجلهم الإمام المتقن أبو الوليد الأزرقى تغمده الله برحمته.
ومن المتأخرين السيد العلامة المحرر القاضى تقى الدين الفاسى المكى بوأه الله دار كرامته، وهو المعول عليه، فإنه (رحمه الله) قد أغرب وأبدع، وأتى فى مؤلفه «شفاء الغرام» ومختصراته بما يشفى وينفع، وأظهر فى ذلك جملا من المحاسن والمفاخر، وإن كان
Bogga 11
للمتقدم عليه فضل السبق والتأسيس فكم ترك الأول للآخر، غير أن الجميع رحمهم الله قد أطالوا الكلام وبالغوا فى الإسهاب، ونشروا العبارة وبسطوها فى جميع الكتاب، بحيث من أراد الإحاطة بذلك يحتاج إلى استيعاب جميع المؤلف مع كبر الحجم ليقف على ما هنالك. وربما قدم بعضهم ما يحسن تأخيره، وأخر ما يحسن تقديمه وتقريره.
وممن جنح أيضا إلى هذا الغرض وذكره ضمنا أرباب كتب المناسك فى أوائل مناسكهم، فمنهم من أوسع العبارة وأطال بما يمكن أن يدرك بأدنى إشارة، ومنهم من مال إلى الإيجاز والاختصار، ومع ذلك فلم تسلم عبارته من التكرار، وبعضهم ضيق العبارة جدا، بحيث إنه ذكر ذلك فى نحو ست ورقات عدا، فأخل حينئذ بما تعين أن يذكر، وأضرب صفحا عن أمور وجب أن تثبت وتشهر.
فلما وجدتها على ما وصفت ولم أقف على مؤلف متوسط فى ذلك يدل على المقصود، ولا ظفرت بتعلق مفرد يكون جامعا لما هو فى أسفار علماء هذا الفن موجود.
أحببت أن أجعل بعد الاستخارة تعليقا لطيفا غير مختصر مخل، ولا مطول ممل.
يكون عدة للقصاد، سالكا إن شاء الله تعالى سبيل التوسط والاقتصاد لقصور الهمم فى هذا الزمان عن مطالعة المطولات، ومراجعة المبسوطات.
أجمع فيه ما تفرق من منثور الكلام، وأضم كل لفظ إلى مناسبه ليحصل كمال الالتئام، ولما أن التأليف فى هذا الوقت ليس هو إلا كما قال بعضهم: جمع ما تشتت، ورم ما تفتت مع زيادة فروع فقهية، وأحاديث نبوية. وآثار ضوية. وفوائد كثيرة. ولطائف غزيرة. مع تحرير عبارة وتقرير وإشارة.
مثبتا ذلك على قدر الفتوح. حسبما هو موجود فى الأسفار مشروح، عازيا كل قول غالبا إلى قائله، ومبينه لطالعه وسائله، ليكون للواقف عليه عمدة، وأخرج بذلك من الدرك والعهدة.
وما فتح الله به فى كلامى على سبيل البحث ميزته بقولى فى أوله بما صورته أقول أو بحث، وفى آخره انتهى، أو والله الموفق بالقلم الأحمر (1)، وشرطت أن لا يخل الناسخ
Bogga 12
بذلك ليتميز عن كلام الغير، هذا مع اعترافى بكساد البضاعة وعدم التقدم فى هذه الصناعة، فشرعت مجتهدا فى ذلك، طالبا من الله تيسير تلك المسألة، وسميته:
«الجامع اللطيف فى فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف» ورتبته على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة.
المقدمة فى فضل العلم.
الباب الأول: فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة وبيان فضلها وشرفها وما ورد فى ذلك من الآيات والأحاديث والآثار، وما سبب تسميتها الكعبة وتسميتها بالبيت العتيق.
الباب الثانى: فى زيادة تعظيم هذا البيت الشريف وما جاء فى فضله من الآيات الشريفة، والعجائب الباهرة المنيفة، وما ورد فى فضل المقام وما سبب تسميته بالمقام وفيه فصلان: (الأول) فى ذكر الحجر الأسود وما ورد فى فضله وشرفه (والثانى) فى فضل الملتزم والدعاء فيه وذكر الفيل وخبر تبع.
الباب الثالث: فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة وعدد مرات بنائها وفيه أربعة فصول:
(الأول) فى الكلام على البيت المعمور وذكر شىء من فضل جدة على سبيل الاستطراد (والثانى) فى ذكر كنز الكعبة والكلام فيه (والثالث) فى الكلام على دخول الكعبة الشريفة وما ورد فى ذلك (والرابع) فى ثواب دخوله.
الباب الرابع: فى الكلام على كسوة الكعبة الشريفة وتطييبها وتحليتها ومعاليقها، وفيه فصل فى الكلام على سدانة البيت.
الباب الخامس: فى فضل الطواف بالبيت والطائفين به، وفيه ثلاثة فصول: (الأول) فى النظر إلى البيت (الثانى) فى بيان المواضع التى صلى فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حول الكعبة (الثالث) فى بيان وجهة المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق.
الباب السادس: فى فضل مكة شرفها الله تعالى وحكم المجاورة بها، وفيه ثلاثة فصول: (الأول) فى أفضليتها على المدينة (الثانى) فى أفضلية قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) على سائر البقاع (الثالث) فى ذكر أسماء مكة المشرفة.
Bogga 13
الباب السابع: فى فضل الحرم وحرمته وفضل المسجد الحرام وخبر عمارته، وفيه خمسة فصول: (الأول) فى ذكر الآيات المختصة بالحرم (الثانى) فى الكلام على تعريف المسجد الحرام، وفيه ذكر شىء من خبر الإسراء على سبيل الاستطراد (الثالث) فى ذكر عمارة المسجد الحرام (الرابع) فى خبر عمارة الزيادتين اللتين به وذرعه وذكر المنابر (الخامس) فى كيفية المقامات التى بالمسجد الحرام وبيان مواضعها وحكم الصلاة فيها وما فى المسجد من القباب والأبنية وعدد أبواب المسجد الحرام.
الباب الثامن: فى فضل أهل مكة وشرفهم وما ورد فى ذلك، وفيه فصل واحد يتعلق بذكر نسب النبى (صلى الله عليه وسلم) ونسب أصحابه العشرة، وذكر شىء من مناقب قريش.
الباب التاسع: فى ذكر مبدأ بئر زمزم وفضل مائها وأفضليته وخواصه، وفيه فصلان (الأول) فى ذكر أسمائها (الثانى) فى آداب الشرب منها.
الباب العاشر: فى عدد أمراء مكة من لدن عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى يومنا هذا.
الخاتمة: فى ذكر الأماكن المباركة التى يستحب زيارتها بمكة وحرمها وخارجها من المواليد والدور والمساجد والجبال والمقابر، سائلا من كرم الله ولطفه أن يهدينى إلى الطريق السواء ويجعلنى ممن أخلص النية فى العمل، وإنما لكل امرئ ما نوى، مستعينا به فيما أردت، مؤملا من فضله إتمامه حسبما قصدت، وهو الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
Bogga 14
المقدمة فى فضل العلم الشريف وأهله وطالبيه وما ورد فيه من الآيات العظيمة والأخبار الكريمة والآثار الجسيمة
اعلم أن العلم شرف الإنسان. وفخر له فى جميع الأزمان. وهو العز الذى لا يبلى جديده. والكنز الذى لا يغنى مزيده. وقدره عظيم. وفضله جسيم. قال الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء @QUR@
معرفته وهم العلماء. وقرئ فى الشواذ برفع الاسم الشريف على الفاعلية ونصب العلماء على المفعولية. وهذا مروى عن جماعة من العلماء منهم إمامنا أبو حنيفة رضى الله عنه. كان الأستاذ الكمال ابن الهمام فى مجلس تدريسه فأورد عليه سائل قراءة أبى حنيفة المذكورة فأجاب بقول الشاعر:
أهابك إجلالا وما بك قدرة
على ولكن ملء عين حبيبها
وحينئذ فالمراد بالخشية الإجلال. فيكون المعنى على هذا إنما يجل الله من عباده العلماء، وقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم (سورة آل عمران: 18) الآية. فقرنهم بالملائكة ثم عطف شهادتهم على شهادته وميزهم من بين سائر الخلق وفضلهم على جميع الناس لقوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (سورة العنكبوت: 43) ومن على سيد البشر بقوله تعالى: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (سورة النساء: 113) قال تعالى تنويها بشأن العلماء: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم (سورة الأنعام: 91) وقال تعالى: علم الإنسان ما لم يعلم (سورة العلق: 5) وقال تعالى فى جواب الكفار حين سألوا وما الرحمن: الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (سورة الرحمن: 1: 4) وقال تعالى فى حق العلماء: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (سورة الزمر: 9) وقال تعالى: يرفع الله الذين
Bogga 15
آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (سورة المجادلة: 11) قال بعض المفسرين: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. قال بعض العلماء: رفعتهم تشمل المعنوية فى الدنيا بحسن الصيت وعلو المنزلة، والحسية فى والآخرة بعلو المنزلة فى الجنة، وقال تعالى: وقل رب زدني علما (سورة طه: 114) وجه الدلالة أن الله تعالى لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شىء إلا من العلم. ومثل هذا كثير فى كتاب الله، وفى بعض الكتب المنزلة (يقول الله: أنا الذى خلقت الخلق والقلم وعلمت الناس البيان).
وأما ما جاءت به بالسنة فأكثر من أن يحاط به. فمن ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وطالب العلم يستغفر له كل شىء حتى الحوت فى البحر».
وروى عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من غدا ليطلب العلم صلت عليه الملائكة وبورك له فى معيشته».
وعن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة».
وفى رواية: (سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضاها بما يصنع). قال بعض العلماء المراد بوضع الأجنحة التواضع على جهة التشريف. وقيل على الحقيقة تضع أجنحتها لهم فيمشون عليها ولا يدركون ذلك للطافة أجسادهم.
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر».
وعن أبى إسحاق المزنى يرفعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة، ويقال للعالم: قف فاشفع لمن شئت».
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «العالم والمتعلم كهذه من هذه» وجمع بين المسبحة والتى تليها «شريكان فى الأجر، ولا خير فى سائر الناس بعد».
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا لذلك، ولا تكن الخامس فتهلك».
Bogga 16
وعن أبى أيوب الانصارى رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «مسألة واحدة يتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة وخير له من عتق رقبة من ولد إسماعيل».
لطيفة [تخصيص اولاد اسماعيل بالذكر]
: تخصيص أولاد إسماعيل بالذكر دون غيرهم قيل: لكونهم أفضل أصناف الأمم، فإن العرب أفضل الأمم، ثم أفضلهم أولاد إسماعيل. وقيل: لأن أولاد إسماعيل لم يجز عليهم رق قبل الإسلام.
وعن أبى أمامة رضى الله عنه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته» رواه مسلم.
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم».
وفى الترمذى: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «يشفع الله يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» قال بعض الفضلاء: أكرم بمرتبة هى متوسطة بين النبوة والشهادة.
أقول: فى العطف ب «ثم» أدل دليل بعلى أفضلية العلماء على الشهداء كما لا يخفى على من عرف الحكم النحوى فى ثم. انتهى.
وفى «الفائق» عنه (صلى الله عليه وسلم): «تعلموا العلم وعلموه الناس» وفيه أيضا: «تعلموا العلم واعملوا به» وفيه : «تعلموا العلم قبل أن يرفع» وفيه: «تعلموا العلم وكونوا من أهله» وفيه: «إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء فى الجنة كما يحتاجون إليهم فى الدنيا».
لطيفة [من الاحتياج الى العلماء فى الجنة]
: من الاحتياج إلى العلماء فى الجنة أنه إذا دخل أهل الجنة إليها يعطيهم الله جميع ما يتمنونه ولا يزالون يتمنون بإذن ربهم حتى تعجز عقولهم وتدبيراتهم عن الأمانى، لأنهم نالوا كل ما أرادوا من النعيم، فيقول الله سبحانه بعد ذلك كله: تمنوا فلا يعرفون ما يتمنون، فيرجعون إلى العلماء فيسألونهم ما يتمنون فيستنبطون لهم أشياء من أسرار الله تبارك وتعالى فيتمنونها. كذا فى «حاوى القلوب إلى لقاء المحبوب» لابن الميلق الشافعى (رحمه الله).
والأحاديث فى ذلك كثيرة جدا. وهذا بعض من كل، وقال بعض الفضلاء: العلم أمان من كيد الشيطان، وحرز من كيد الحسود ودليل العقل، ولقد أحسن من قال:
Bogga 17
ما أحسن العقل والمحمود من عقلا
وأقبح الجهل والمذموم من جهلا
فليس يصلح نطق المرء فى جدل
والجهل يفسده يوما إذا سئلا
والعلم أشرف شىء ناله رجل
من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا
تعلم العلم واعمل يا أخى به
فالعلم زين لمن بالعلم قد عملا
وعن بعض الحكماء أنه قال: العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قائده، والرفق والده، والبر أخوه، والصبر أمير جنوده.
وقال بعض الحكماء: لمثقال ذرة من العلم أفضل من جهاد الجاهل ألف عام، وقال الإمام الشافعى رضى الله عنه وأعاد علينا من بركاته: الاشتغال بالعلم أفضل من صلاة النافلة، وقال ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وقال بعض العلماء: العلم نور يهتدى به الحائر، وفى معناه أنشدوا:
بالعلم تحيا نفوس قط ما عرفت
من قبل ما الفرق بين الصدق والمين
العلم للنفس نور تستدل به
على الحقائق مثل النور للعين
وقال آخر:
كفى شرفا بالعلم دعواه جاهل
ويفرح إن أمسى إلى العلم ينسب
ويكفى خمولا بالجهالة أننى
أراع متى أنسب إليها وأغضب
Bogga 18
وقال ابن الزبير: إن أبا بكر كتب إلى وأنا بالعراق: يا بنى عليك بالعلم فإنك إذا افتقرت إليه كان مالا، وإن استغنيت به كان جمالا، وأنشد فى معناه:
العلم بلغ قوما ذروة الشرف
وصاحب العلم محفوظ من التلف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه
بالموبقات فما للعلم من خلف
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف
وقال بعض الفضلاء: ينبغى لكل عاقل أن يبالغ فى تعظيم العلماء ما أمكن ولا يعد غيرهم من الأحياء، وقد أجاد من قال:
ومن الجهالة أن تعظم جهلا
لصقال ملبسه ورونق نقشه
واعلم بأن التبر فى بطن الثرى
خاف إلى أن يستبين بنبشه
وفضيلة الدينار يظهر سرها
من حكه لا من ملاحة نقشه
وقال أبو طالب المكى فى «قوت القلوب» جاء فى الخبر أن الله تعالى لا يعذر على الجهل ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله ولا يحل للعالم أن يسكت عن علمه، وقد قال سبحانه: فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (سورة الأنبياء: 7).
وقال سيدى الشيخ سهل بن عبد الله التسترى رضى الله عنه وأعاد علينا من بركاته: ما عصى الله بمعصية أعظم من الجهل، وما أطيع الله بمثل العلم.
وقال بعضهم رضى الله عنه: قسوة القلب بالجهل أشد من قسوته بالمعاصى. قال الشيخ محمد ابن على المنهاجى (رحمه الله): قلت: والله أعلم ولهذا نجد الجاهل يبغض كل من كان طالبا للعلم ويعد ذلك عيبا، وقيل فى معنى ذلك:
Bogga 19
عاب التعلم قوم لا عقول لهم
وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة
أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
وقال على بن أبى طالب (كرم الله وجهه): العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالنفقة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: خير سليمان بن داود (صلوات الله عليهما) بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطى الملك والمال معه. وقال الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه:
ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله فى قلب من يشاء.
وقال بعض الحكماء: ليت شعرى أى شىء أدرك من فاته العلم وأى شىء فات من أدرك العلم. وما أحسن ما قيل:
مع العلم فاسلك حيثما سلك العلم
وعنه فكاشف كل من عنده فهم
ففيه جلاء للقلوب من العمى
وعون على الدين الذى أمره حتم
فخالط رواة العلم واصحب خيارهم
فصحبتهم زين وخلطتهم غنم
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم
نجوم هدى إن غاب نجم بدا نجم
فو الله لو لا العلم ما اتضح الهدى
ولا لاح من غيب الأمور لنا رسم
وعن ابن المبارك أنه قال: لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.
وعن عثمان بن أبى شيبة قال: سمعت وكيعا يقول: لا يكون الرجل عالما حتى يسمع
Bogga 20
ممن هو أسن منه وممن هو مثله وممن هو دونه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب العلم وطالب الدنيا، وهما لا يستويان، أما طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأما طالب الدنيا فيزداد فى الطغيان ثم قرأ: إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى @QUR@
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا
فالناس موتى وأهل العلم أحياء
وقيل للحسين بن الفضل رضى الله عنه: هل تجد فى القرآن من جهل شيئا عاداه؟ فقال: نعم، فى موضعين: قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه (سورة يونس: 39) وقوله تعالى:
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (سورة الأحقاف: 11).
وقال يحيى بن معاذ الرازى رضى الله عنه: العلماء أرأف بأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأرحم عليهم من آبائهم وأمهاتهم، وذلك أن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها.
وقال سفيان الثورى رضى الله عنه: العجائب عامة وفى آخر الزمان أعم، والنوائب طامة وفى أمر الدين أطم. والمصائب عظيمة، وموت العلماء أعظم، وإن العالم حياته رحمة للأمة، وموته فى الإسلام ثلمة.
وعن معاذ: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وما أحسن قول الزمخشرى:
وكل فضيلة فيها سناء
وجدت العلم من هاتيك أسنى
Bogga 21
فلا تعتد غير العلم ذخرا
فإن العلم كنز ليس يفنى
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع.
وعن عمر رضى الله عنه: موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العالم البصير بحلال الله وحرامه.
والكلام فى هذا يطول، ولنختم هذا النوع بحديث نبوى ورد فى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير بعلم فضلوا وأضلوا» وهذا التعليق لا يحتمل أكثر من هذا. وفيما ذكرته مقنع.
اللهم إنى أسألك بجاه نبيك محمد (صلى الله عليه وسلم) أن ترزقنى علما نافعا وتختم لى بخير وتحشرنى فى زمرة من ذكرتهم بقولك تبارك اسمك: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء: 69) آمين يا رب العالمين.
Bogga 22
الباب الأول فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة وبيان فضلها وشرفها وما يدل على ذلك من الآيات والأحاديث والآثار والحكايات والعجائب [وما سبب تسميتها كعبة وتسميتها بالبيت العتيق] (1)
أما الآيات فمن ذلك قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس (سورة آل عمران: 96، 97) الآيتين. قال الكواشى: سبب نزول هاتين الآيتين أن اليهود لما قالوا للمسلمين: قبلتنا قبل قبلتكم أنزل الله تعالى: إن أول بيت.
واختلف فى معنى كونه أول بيت وضع للناس، فقيل: أول بيت وضعه الله للطاعات وجعله متعبدا وقبلة للصلوات وموضعا للطواف، ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه، أنه سئل أهو أول بيت وضع؟ فقال: كان قبله بيوت ولكنه أول متعبد. وقيل: أول بيت بنته الملائكة فلما حجه آدم قالت له الملائكة: بر حجك فإنا قد حججنا قبلك بألفى عام.
وقيل: أول بيت بناه آدم. وقيل: أول بيت بناه إبراهيم، وقيل: أول بيت حج بعد الطوفان.
وقيل: أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض. فهذه ستة أقوال.
وبيان القول الأخير أن الله تعالى كان ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء وليس هو ماء البحر بل هو ماء تحت العرش بكيفية شاءها الله تعالى. فقيل: إنه خلق السماء دخانا قبل الأرض وفتقها سبعا بعد الأرض. ورده بعضهم بأن خلق الأرض كان أولا مستدلا بقوله تعالى: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين @QUR@
خلق الأرض، وبه قال ابن عباس رضى الله عنه واختاره الشيخ جلال الديبن السيوطى من المتأخرين، وأجاب بذلك عن سؤال رفع إليه صورته:
يا عالم العصر لا زالت أناملكم
تهمى وجودكم نام مدى الزمن
Bogga 23
لقد سمعت خصاما بين طائفة
من الأفاضل أهل العلم واللسن
فى الأرض هل خلقت قبل السماء وهل
بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن
فمنهم قال إن الأرض منشأة
بالخلق قبل السما قد جاء فى السنن
ومنهم من أتى بالعكس مستندا
إلى كلام إمام ماهر فطن
أوضح لنا ما خفى من مشكل وأبن
نجاك ربك من زور ومن محن
ثم الصلاة على المختار من مضر
ماحى الضلالة هادى الخلق للسنن
فأجاب رضى الله عنه بما صورته:
الحمد لله ذى الإفضال والمنن
ثم الصلاة على المبعوث بالسنن
الأرض قد خلقت قبل السماء كما
قد نصه الله فى حاميم فاستبن
ولا ينافيه ما فى النازعات أتى
فدحوها غير ذاك الخلق للفطن
فالحبر أعنى ابن عباس أجاب بذا
لما أتاه به قوم ذوو لسن
وابن السيوطى قد خط الجواب لكى
ينجو من النار والآثام والفتن
انتهى بنصه.
Bogga 24
فإن قيل: هل قول السماء والأرض كان بلسان الحال أم المقال: قيل: إن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما. وقيل: إن الله خلق فيهما كلاما فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها.
مطلب: أصل طينة النبى (صلى الله عليه وسلم) من مكة
قال الثعلبى: خلق الله تعالى جوهرة خضراء ثم نظر اليها بالهيبة فصارت ماء فخلق الله الأرض من زبده والسماء من بخاره فكان أول ظاهر على وجه الأرض مكة. زاد غيره ثم المدينة ثم بيت المقدس ثم دحا الأرض منها طبقا واحدا ثم فتقها بعد ذلك وكذلك السماء. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال أصل طينة النبى (صلى الله عليه وسلم) من سرة الأرض بمكة.
قال بعض العلماء: فى هذا إيذان بأنها التى أجابت من الأرض، وعن كعب الأحبار رضى الله عنه قال: كانت الكعبة غثاء على الأرض. قبل خلق السموات والأرض بأربعين سنة، ومنها دحيت الأرض فهو (صلى الله عليه وسلم) الأصل فى التكوين والكائنات تبع له.
مطلب: مدفن الإنسان بتربته
فإن قيل: مدفن الإنسان يكون بتربته، أى مكان طينته التى خلق منها وهو (صلى الله عليه وسلم) دفن بالمدينة الشريفة، أجاب بعض العلماء أن الماء لما تموج عند وقوع الطوفان ألقى تلك الطينة إلى ذلك الموضع من المدينة الشريفة. وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن تخلق السموات والأرض بعث الله ريحا هفافة- بفاءين- فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة فى موضع البيت كأنها قبة، فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال.
مطلب: أول جبل وضع فى الأرض أبو قبيس
وكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس، فلذلك سميت مكة أم القرى أى أصلها. والخشفة بالخاء والشين المعجمتين والفاء واحدة الخشف، وهى حجارة تنبت فى الأرض نباتا.
وروى عمر بن شبة فى أخبار مكة: خشعة بالعين المهملة عوضا عن الفاء وهى أكمة لاطية بالأرض. وقيل: هو ما غلب عليه السهولة وليس بحجر ولا طين. ويقال للجزيرة التى فى البحر لا يعلوها الماء خشفة بالفاء وجمعها خشاف.
Bogga 25
وقوله فى الآية السابقة: للذي ببكة مباركا (سورة ال عمران: 96) أى كثير الخير لما يحصل لمن حجه أو اعتمره أو عكف عنده أو طاف حوله من الثواب.
وانتصاب مباركا على الحال. قال الزجاج وغيره: المعنى استقر بمكة فى حال بركته وهو حال من وضع، وقوله: فيه آيات بينات (سورة ال عمران: 97) قال النسفى فى «تفسيره»: أى علامات واضحات لا تلتبس على أحد.
ومقام إبراهيم: عطف بيان لقوله آيات بينات، وصح بيان الجماعة بالواحد، لأنه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم (عليه السلام) من تأثير قدمه فى صخر صلد، أو لاشتماله على آيات، لأن أثر القدم فى الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء (عليهم السلام) آية لإبراهيم خاصة.
وقوله: ومن دخله كان آمنا (سورة ال عمران: 97) عطف بيان لآيات، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله. والآيتان فى معنى الجمع، ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهم دلالة على تكاثر الآيات، فكأن المعنى مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما، ونحوه فى طى الذكر قوله (صلى الله عليه وسلم): «حبب إلى من دنياكم ثلاث» وقيل إن لفظ ثلاث موضوعة لا أصل لها فى الحديث، كما صرح به بعض أئمة الحديث «الطيب والنساء وقرة عينى فى الصلاة» فقرة عينى ليس من الثلاث، بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا، والثالث مطوى. انتهى باختصار.
مطلب: أول مسجد وضع بالأرض المسجد الحرام
وعن أبى ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أى مسجد وضع فى الأرض أولا؟ قال:
المسجد الحرام، قلت: ثم أى؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال:
أربعون عاما.
وفى ذلك إشكال أشار إليه جدى- أى جد المؤلف قاضى القضاة شيخ الاسلام خطيب المسجد الحرام فخر الدين أبو بكر بن على بن ظهيرة الشافعى تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوح جنته- فى منسكه المسمى «بشفاء الغليل فى حج بيت الله الجليل» وهو أن
Bogga 26
مسجد مكة بناه إبراهيم (عليه السلام) بنص القرآن وإذ يرفع إبراهيم (سورة البقرة: 127) الآية. والمسجد الأقصى بناه سليمان كما جاء فى حديث ابن عمر، أخرجه النسائى بإسناد صحيح. وبين إبراهيم وسليمان زمان طويل يزيد على ألف سنة كما قاله أهل التواريخ، فكيف قال فى الحديث: بينهم أربعون سنة؟ والجواب عن ذلك بأنه يحتمل أن ابراهيم وسليمان إنما جددا ما بناه غيرهما كما سيأتى آنفا من أن أول من بنى البيت آدم، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عاما. ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن من الله تبارك وتعالى، فعلى هذه الأقاويل يكون قوله تعالى إن أول بيت وضع على ظاهره، وهو الذى عليه جمهور العلماء وصححه النووى.
انتهى بمعناه.
ومن ذلك قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا (سورة البقرة: 125) المراد بالبيت الكعبة، لأنه غالب عليها كالنجم للثريا. ومثابة: قال النسفى: مباءة ومرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه.
وأمنا موضع أمن، فإن الجانى يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج، وهو دليل لنا فى الملتجئ إلى الحرم. انتهى.
وأصل الثوب لغة: الرجوع، ومن ذلك قوله تعالى عقب هذه الآية: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين (سورة البقرة: 125) الآية، المعنى: طهراه من الأوثان والأنجاس والخبائث كلها. والمراد بالطائفين: الدائرون حوله. وبالعاكفين:
قيل: المجاورون الذين عكفوا عنده أى أقاموا لا يبرحون.
وقيل: المعتكفون، وقيل: الطائفون النزاع إليه من البلاد. والعاكفون: المقيمون عنده من أهل مكة.
مطلب: قبلته (صلى الله عليه وسلم)
ومن ذلك قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها (سورة البقرة: 143) ثم قوله:
فلنولينك قبلة ترضاها (سورة البقرة: 144) الآيات.
Bogga 27
وروى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كان يصلى بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ثم حول إلى الكعبة.
قال النسفى: أى وما جعلنا القبلة التى تحب أن تستقبلها الجهة التى كنت عليها أولا بمكة الا امتحانا للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد، فقد ارتد عن الإسلام عند تحويل القبلة جماعة. انتهى.
والمراد بقوله: شطر المسجد الحرام بمعنى المحرم هو الكعبة. قال الكواشى:
وذكر النسفى أن المراد جهته وسمته أى جعل تولية الوجه تلقاء المسجد وشطره نصب على الظرف أى نحوه، لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائى.
وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين.
انتهى، وقوله: وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق (سورة البقرة: 144) قال الزمخشرى أى إن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان فى بشارة أنبيائهم برسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه يصلى إلى القبلتين.
مطلب: تحويل القبلة
فائدة: قال العلامة شهاب الدين أبو الفضل بن العماد الأقفهسى فى الدرة الضوية فى هجرة خير البرية: كان تحويل القبلة فى السنة الثانية من الهجرة. ثم قال: قال النووى ناقلا عن محمد بن حبيب الهاشمى: حولت القبلة فى ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، كان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أصحابه فحانت صلاة الظهر فى منازل بنى سلمة- بكسر اللام- فصلى بهم ركعتين من الظهر فى مسجد القبلتين إلى بيت المقدس، ثم أمر وهو فى الصلاة باستقبال الكعبة وهو راكع فى ثالثة فاستدار واستدارت الصفوف خلفه (صلى الله عليه وسلم)، فأتم الصلاة، فسمى مسجد القبلتين.
وكان (صلى الله عليه وسلم) مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد الهجرة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر، ثم قال- أعنى ابن العماد: قول النووى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان مأمورا باستقبال بيت المقدس مدة إقامته بمكة قد جزم البغوى بخلافه فقال فى تفسير قوله تعالى:
قد نرى تقلب وجهك (سورة البقرة: 144) الآية، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يصلون
Bogga 28
بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم بما يجدون من نعته فى التوراة، فصلى إليها ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة إبراهيم.
وقال مجاهد: كان يحب ذلك من أجل أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا ويصلى إلى قبلتنا، فقال (صلى الله عليه وسلم) لجبريل: وددت لو حولنى الله إلى الكعبة، فقال له سل ربك. فجعل (صلى الله عليه وسلم) يديم النظر إلى السماء فأنزل الله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء (سورة البقرة: 144) الآيات. انتهى بنصه.
وما جزم به البغوى من أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى بمكة إلى الكعبة هو المعتمد وعليه أكثر المفسرين وأصحاب السير.
مطلب: المختار أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن متعبدا بشرع من قبله بعد البعثة
واختلف العلماء هل كان ذلك باجتهاد أو بأمر من ربه؟ وهذا تفريع على الأصح من أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يتعبد بشرع غيره بعد البعثة. ومن ذلك قوله تعالى فى سورة المائدة: ولا آمين البيت الحرام (سورة المائدة: 2) أى لا تحلوا من قصده من الحجاج والعمار، وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، قاله النسفى.
أقول: وتوجيهه أن المتنسكين إنما أرادوا تعظيم هذا البيت المشرف وجزيل الثواب، وفى الإحالة إبطال ذلك، والله الموفق.
وفى «تفسير الكواشى»: ولا آمين أى ولا قتال قاصدين البيت، فإن قيل: هذا عام فى المؤمنين والمشركين أم انتسخ الحكم فى حق المشركين؟ فالجواب أنه منسوخ بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (سورة التوبة: 5) وبقوله: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (سورة التوبة: 28) وهو المشهور.
Bogga 29
مطلب: عن الحسن وغيره ليس فى المائدة منسوخ
وعن الحسن وغيره ليس فى المائدة منسوخ. ومن ذلك قوله تعالى فى السورة المذكورة هديا بالغ الكعبة (سورة المائدة: 95) فبالغ الكعبة صفة لهديا وجاز الوصف بذلك لأن إضافته غير حقيقية كما صرح به النحاة. ومعنى بلوغ الكعبة أن يذبح بالحرم وهو فناء المسجد الذى هو فناء للبيت، كل ذلك تعظيما لهذا البيت أن لا تقام هذه القربة إلا فى حرمه، ولا يجزئ الذبح فى غيره.
فروع: الأول: الهدى المذكور فى الآية هو جزاء الصيد، ويجب على المحرم عندنا بقتله الصيد سواء كان ناسيا أو عامدا أو مبتدئا وهو الذى قتل الصيد مرة أو عائدا وهو الذى قتل مرة بعد أخرى، بل العائد عندنا أشد جناية خلافا لمن يقول لا جزاء على العائد لأن الله تعالى قال: ومن عاد فينتقم الله منه (سورة المائدة: 95) جعل كل جزاء العائد الانتقام فى الآخرة فلا تجب الكفارة.
والجواب عنه بأن وجوب الكفارة فى العائد مستفاد من الآية بدلالة النص، والمراد من قوله: ومن عاد، العود مستحلا.
الثانى: يجب الجزاء على المحرم عندنا بالدلالة أيضا خلافا للشافعى لأنه يقول: الجزاء متعلق بالقتل فى قوله تعالى: ومن قتله منكم متعمدا (سورة المائدة: 95) ليست بقتل ولنا قوله (صلى الله عليه وسلم): هل أشرتم هل دللتم ... الحديث. مع أن فى الدلالة عليه تفويتا لأمنه وهو قتل معنى.
الثالث: يجوز التصدق بلحوم الهدايا عندنا على مساكين الحرم وغيرهم سواء كان التصدق بالحرم أو حيث شاء بعد أن حصلت الإراقة فى الحرم، وعند الشافعى (رحمه الله) لا يجوز التصدق إلا بالحرم على مساكينه فقط نص عليه ابن خليل فى «منسكه» ومن ذلك قوله عقيب الآية المتقدمه آنفا جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس (سورة المائدة: 97) أى قواما لهم فى أمر دينهم ودنياهم فلا يزال فى الأرض دين ما حجت وعندها المعاش والمكاسب كذا فى «منسك» ابن جماعة. قال الجد تغشاه الله برحمته بعد ذكر هذه الآية:
أى ركز فى قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى على أحد وصارت وازعا لهم من الأذى
Bogga 30