Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن «الرحمن» مجازه «ذو الرحمة»، و«الرحيم» مجازه «الراحم». ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان ونديم. ثم استشهد بقول برج بن مسهر الطائي:
وندمان يزيد الكأس طيبا
سقيت وقد تغورت النجوم
واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان. ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم: الراحم. وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضح عواره.
وإن قال لنا قائل: ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم؟ قيل: لأن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يتبعوه صفاته ونعوته. وهذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، ذلك مثل «الله»، و«الرحمن» و«الخالق» وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيم، والسميع، والبصير، والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقي، وبحسن وهو قبيح. أو لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه:
أإله مع الله
[النمل: 60] فاستكبر ذلك من المقر به، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى
[الإسراء: 110] ثم ثنى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة، وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمن ثانيا لاسمه الذي هو الله». وأما اسمه الذي هو «الرحيم» فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو «الله» على اسمه الذي هو «الرحمن»، واسمه الذي هو «الرحمن» على اسمه الذي هو «الرحيم». وقد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها لعباده. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع. مع أن في إجماع الأمة من منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
[1.2]
Bog aan la aqoon