305

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه

[السجدة: 1-3]، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فيه ب«أم»، والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك، والخصماء جمع خصيم. وتأويل الكلام: أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوته، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت، أي أنكم لم تحضروا ذلك. فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتنحلوهم اليهودية والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصوا بنيهم وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتموهم فسمعتم منهم علمتم أنهم على غير ما تنحلوهم من الأديان والملل من بعدهم. وهذه آيات نزلت تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية: { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { أم كنتم شهداء } يعني أهل الكتاب. القول في تأويل قوله تعالى: { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون }. يعني تعالى ذكره بقوله: { إذ قال لبنيه } إذ قال يعقوب لبنيه. و«إذ» هذه مكررة إبدالا من «إذ» الأولى بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته. ويعني بقوله: { ما تعبدون من بعدي } أي شيء تعبدون من بعدي، أي من بعد وفاتي. { قالوا نعبد إلهك } يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا، أي نخلص له العبادة ونوحد له الربوبية فلا نشرك به شيئا ولا نتخذ دونه ربا. ويعني بقوله: { ونحن له مسلمون } ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة. ويحتمل قوله: { ونحن له مسلمون } أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون. وأحسن هذين الوجهين في تأويل ذلك أن يكون بمعنى الحال، وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق مسلمين لعبادته. وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.

ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } قال: يقال بدأ بإسماعيل لأنه أكبر. وقرأ بعض المتقدمين: «وإله أبيك إبراهيم» ظنا منه أن إسماعيل إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن ترجم به عن الآباء وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء، والأخوال بمعنى الأمهات، فلذلك دخل إسماعيل فيمن ترجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ترجمة عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون. والصواب من القراءة عندنا في ذلك: { وإله آبائك } لإجماع القراء على تصويب ذلك وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك، ونصب قوله إلها على الحال من قوله إلهك.

[2.134]

يعني تعالى ذكره بقوله: { تلك أمة قد خلت } إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية فتضيفوها إليهم، فإنهم أمة ويعني بالأمة في هذا الموضع الجماعة، والقرن من الناس قد خلت: مضت لسبيلها. وإنما قيل للذي قد مات فذهب: قد خلا، لتخليه من الدنيا، وانفراده بما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه، وأصله من قولهم: خلا الرجل، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه وانفرد من الناس، فاستعمل ذلك في الذي يموت على ذلك الوجه. ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه بضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه من أنبيائي ورسلي ما كسبت. والهاء والألف في قوله: { لها } عائدة إن شئت على «تلك»، وإن شئت على «الأمة». ويعني بقوله: { لها ما كسبت } أي ما عملت من خير، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم. ولا تؤاخذون أنتم أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل، فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فيكسبون من خير وشر لأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم إن كنتم عملتموها وقدمتموها.

[2.135]

يعني تعالى ذكره بقوله: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا. تعني بقولها تهتدوا: أي تصيبوا طريق الحق. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين }. احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي تجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، وندع سائر الملل التي نختلف فيها فينكرها بعضنا ويقر بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاجتماع عليه كما لنا السبيل إلا الاجتماع على ملة إبراهيم. وفي نصب قوله: { بل ملة إبراهيم } أوجه ثلاثة: أحدها أن يوجه معنى قوله: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية، لأنهم إذ قالوا: كونوا هودا أو نصارى إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة، فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف «نتبع» الثانية، ويعطف بالملة على إعراب اليهوية والنصرانية. والآخر أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى نتبع. والثالث أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة إبراهيم ثم حدف «الأهل» و«الأصحاب»، وأقيمت «الملة» مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، كما قال الشاعر:

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ويب غيرك بالعناق

يعني صوت عناق، فتكون الملة حينئذ منصوبة عطفا في الإعراب على اليهود والنصارى. وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم. وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم. القول في تأويل قوله تعالى: { بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين }. والملة: الدين. وأما الحنيف: فإنه المستقيم من كل شيء.

Bog aan la aqoon