Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له. وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: { بلى من أسلم وجهه لله } بإسلام وجهه له دون سائر جوراحه لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء فتضيفه إلى وجهه وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى:
وأول الحكم على وجهه
ليس قضائي بالهوى الجائر
يعني بقوله: «على وجهه»: على ما هو به من صحته وصوابه. وكما قال ذو الرمة:
فطاوعت همي وأنجلى وجه بازل
من الأمر لم يترك خلاجا نزولها
يريد: «وانجلى البازل من الأمر فتبين»، وما أشبه ذلك، إذ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: { بلى من أسلم وجهه لله } إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده { وهو محسن } في إسلامه له جسده، { فله أجره عند ربه }. فاكتفى بذكر الوجه من ذكر جسده لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر الوجه. وأما قوله: { وهو محسن } فإنه يعني به في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له محسنا في فعله ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: { فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
يعني بقوله جل ثناؤه: { فله أجره عند ربه } فللمسلم وجهه لله محسنا جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه عند الله في معاده. ويعني بقوله: { ولا خوف عليهم } على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون، المخلصين له الدين في الآخرة من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم. ويعني بقوله: { ولا هم يحزنون } ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته. وإنما قال جل ثناؤه: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقد قال قبل: { فله أجره عند ربه } لأن «من» التي في قوله: { بلى من أسلم وجهه لله } في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: { فله أجره } للفظ، والجمع في قوله: { ولا خوف عليهم } للمعنى.
[2.113]
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } إلى قوله: { فيما كانوا فيه يختلفون } حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب. وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين إعلاما منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيقته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام وما جاء به من عند الله من الأحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون، وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون. فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟ قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار كل فريق منهم إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
Bog aan la aqoon