260

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

وقد قرأ بعضهم ذلك: «ما ننسخ من آية أو تنسها» وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ { أو ننسها } إلا أن معنى «أو تنسها» أنت يا محمد. وقد قرأ بعضهم: «ما ننسخ من آية» بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية، من أنسختك فأنا أنسخك. وذلك خطأ من القراءة عندنا لخروجه عما جاءت به الحجة من القراءة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ «تنسها» أو «تنسها» لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة. وأولى القراءات في قوله: { أو ننسها } بالصواب من قرأ: { أو ننسها } ، بمعنى نتركها لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: { ما ننسخ من آية } قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرىء كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير، إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك. وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: «أو تنسها» إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه:

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك

[الإسراء: 86] ما ينبىء عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم. قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك: إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا: «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم إن ذلك رفع. فالذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: «لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» ثم رفع وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.

وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز. وأما قوله:

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك

[الإسراء: 86] فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال الله تعالى ذكره:

سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء الله

[الأعلى: 6-7] فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان اتى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. القول في تأويل قوله تعالى: { نأت بخير منها أو مثلها }. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { نأت بخير منها أو مثلها } ، فقال بعضهم بما: حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { نأت بخير منها أو مثلها } يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال آخرون بما: حدثني به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { نأت بخير منها أو مثلها } يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نهي. وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: { نأت بخير منها } يقول: نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها أو مثل التي تركناها. فالهاء والألف اللتان في قوله: منها عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله: { ما ننسخ من آية } والهاء والألف اللتان في قوله: أو مثلها عائدتان على الهاء والألف اللتين في قوله: { أو ننسها }. وقال آخرون بما: حدثني به المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان عبيد بن عمير يقول: { ننسها } نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: { أو ننسها } نرفعها نأت بخير منها أو بمثلها. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود، مثله.

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها، إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم وإما في الآجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشق فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: { نأت بخير منها } لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء. فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه: { أو مثلها }. وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: { ما ننسخ من آية أو ننسها } ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله:

وأشربوا في قلوبهم العجل

Bog aan la aqoon