255

Jamic Bayan

جامع البيان في تفسير القرآن

إلا سرابيل من قطر وأغلال

يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ إلا السرابيل والأغلال. فكذل قوله: { ما له في الآخرة من خلاق } ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: { ما له في الآخرة من خلاق } فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة ، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب على مراده من الخير، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا. القول في تأويل قوله تعالى: { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }. قال أبو جعفر رحمه الله: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا: باعوا فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ولبئس ما شروا به أنفسهم } يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم. فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } وقد قال قبل: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: { لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه.

ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون: { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين }. فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب، فذلك تأويل قوله. وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } يعني به الشياطين، وأن قوله: { لو كانوا يعلمون } يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: { ولقد علموا لمن اشتراه } معني به اليهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دل عليه التنزيل، لأن الآيات قبل قوله: { ولقد علموا لمن اشتراه } وبعد قوله: { لو كانوا يعلمون } جاءت من الله بذم اليهود، وتوبيخهم على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } أحد تلك الأخبار عنهم. وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } فنفى عنهم العلم هم الذين وصفهم الله بقوله: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: { لو كانوا يعلمون } بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: { ولقد علموا } من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا، وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما: لو علمت لأقصرت كما قال كعب بن زهير المزني، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:

إذا حضراني قلت لو تعلما نه

ألم تعلما أني من الزاد مرمل

فأخبر أنه قال لهما: لو تعلمانه، فنفى عنهما العلم. ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما. قالوا: فكذلك قوله: { ولقد علموا لمن اشتراه } و: { لو كانوا يعلمون } وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب. أعني بقوله: { ولقد علموا } وقوله: { لو كانوا يعلمون } وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن، أولى.

[2.103]

يعني جل ثناؤه بقوله: { ولو أنهم آمنوا واتقوا } لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه آمنوا، فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، واتقوا ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه لكان جزاء الله إياهم وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلمون أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: { لو كانوا يعلمون } العلم عنهم أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله وقدر جزائه على طاعته. والمثوبة في كلام العرب مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة، فأصل ذلك من ثاب إليك الشيء بمعنى رجع، ثم يقال: أثبته إليك: أي رجعته إليك ورددته. فكان معنى إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها: إرجاعه إليها منها بدلا، ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أويد له سلفت منه إليه مثيبا له. ومنه ثواب الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير } مما اكتفي بدلالة الكلام على معناه عن ذكر جوابه، وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لاثيبوا ولكنه استغنى بدلالة الخبر عن المثوبة عن قوله: لأثيبوا. وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة } وأن «لو» إنما أجيبت بالمثوبة، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى «لئن» في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان، فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها، فأجيبت «لو» بجواب «لئن»، و«لئن» بجواب «لو» لذلك وإن اختلفت أجوبتهما فكانت «لو» من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت «لئن» من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل لما وصفنا من تقاربهما، فكان يتأول معنى قوله: { ولو أنهم آمنوا واتقوا }: ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير. وبما قلنا في تأويل المثوبة قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { لمثوبة من عند الله } يقول: ثواب من عند الله. حدثني يونس، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله } أما المثوبة، فهو الثواب. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير } يقول: لثواب من عند الله.

[2.104]

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { لا تقولوا راعنا } فقال بعضهم: تأويله لا تقولوا خلافا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: { لا تقولوا راعنا } قال: لا تقولوا خلافا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { لا تقولوا راعنا } لا تقولوا خلافا. وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: تأويله: أرعنا سمعك: أي اسمع منا ونسمع منك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: { راعنا } أي أرعنا سمعك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وحدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: { راعنا } قال: كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك. ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا راعنا، فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: لا تقولوا راعنا قال: كان أناس من اليهود يقولون: أرعنا سمعك، حتى قالها أناس من المسلمين. فكره الله لهم ما قالت اليهود، فقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } كما قالت اليهود والنصارى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } قال: كانوا يقولون راعنا سمعك، فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: { لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا }. وحدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { لا تقولوا راعنا } قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا.

Bog aan la aqoon