Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
يعني: يشهد. وكما قال الآخر:
فما أضحي ولا أمسيت إلا
أراني منكم في كوفان
فقال: أضحي، ثم قال: ولا أمسيت. وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل، فيقول له: ويحك لم تكذب ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
ولم تجدي من أن تقري به بدا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام إذا نظرت في سيرة عمر لم تجده يسيء، المعنى: لم تجده أساء، فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه لم يقع في الوهم أنه مستقبل، فلذلك صلحت من قبل مع قوله: { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل }. قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتلوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم. والصواب فيه من القول عندنا أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا، على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم.
فكذلك ذلك في قوله: { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم على نحو الذي بينا، جاز أن يقال من قبل إذ كان معناه: قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل؟ وكان معلوما بأن قوله: { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } إنما هو خبر عن فعل سلفهم. وتأويل قوله: { من قبل } أي من قبل اليوم. أما قوله: { إن كنتم مؤمنين } فإنه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم، إن كانوا وكنتم كما تزعمون أيها اليهود مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم: { آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا } لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبياء الله مع قيلهم: { نؤمن بما أنزل علينا } متولين، وبفعلهم راضين، فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتله أنبياء الله؟ أي ترضون أفعالهم.
[2.92]
يعني جل ثناؤه بقوله: { ولقد جاءكم موسى بالبينات } أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وحقية نبوته كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين، وفلق البحر، ومصير أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمل والضفادع، وسائر الآيات التي بينت صدقه وحقية نبوته. وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له، وإنما هي جمع بينة مثل طيبة وطيبات. قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وحقية نبوته. وقوله: { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها، فالهاء التي في قوله: «من بعده» من ذكر موسى. وإنما قال: «من بعد موسى»، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده، على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا. وقد يجوز أن تكون «الهاء» التي في «بعده» إلى ذكر المجيء، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون، كما تقول: جئتني فكرهته يعني كرهت مجيئك. وأما قوله: { وأنتم ظالمون } فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل، وليس ذلك لكم وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحوده ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة أسرع، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
Bog aan la aqoon