قال الربيع: فقال لي أبو عبد الله وكان إلى جانبي ما رأيت مثل عقال بن شبة قط؛ أرضى أمير المؤمنين، ومدح الغلام، وسلم من مذمة المهدي.
فقال المنصور للربيع: لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم.
قال أبو بكر الصولي: وأبيات المؤمل حسان لا أعرف له خيرًا منها، ولو قلت: إنه لا يعد شاعرًا إلا بها ما أبعدت، وما كان يعرفها الناس، وإنما شهر بقصيدته التي أولها:
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمّل لم يخلق له بصر
ويقال: إنه لما قال هذا عمي، فرأى في منامه إنسانًا يقول له: هذا ما تمنيت في شعرك. ومن أحسن ما قاله المؤمل قوله:
أبهار قد هيجت لي أوجاعًا ... وتركتني صبًّا بكم مطواعا
بحديثك الحسن الذي لو حدّثت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا
والله لو علم البهار بأنها ... أضحت سميّته لطال ذراعا
أبو دلامة والمنصور
وكان المنصور قد أخذ الناس بلباس قلانس طوال، وأن يكتبوا في ظهور ثيابهم: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم "، وأن يطيلوا حمائل سيوفهم. فدخل أبو دلامة عليه في ذلك الزي، فقال: كيف حالك يا أبا دلامة؟ فقال: ما حال من صار وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره!! فأمر المنصور بتغيير ذلك الزي.
ودخل أبو دلامة على أم سلمة بنت يعقوب بن مسلمة المخزومية زوجة أبي العباس السفاح يعزيها عنه فبكى وأنشد قصيدةً منها:
أمسيت بالأنبار يابن محمّدٍ ... لا تستطيع من البلاد حويلا
ويلي عليك وويل أهلي كلّهم ... ويلًا وهولًا في الحياة طويلا
فلتبكينّ لك النساء بعبرةٍ ... وليبكينّ لك الرجال عويلا
مات النّدى إذ متّ يابن محمد ... فجعلته لك في التراب عديلا
إن أجملوا في الصبر عنك فلم يكن ... صبري ولا جلدي عليك جميلا
يجدون منك خلائفًا وأنا امرؤٌ ... لو عشت دهري ما وجدت بديلا
إني سألت النّاس بعدك كلّهم ... فوجدت أسمح من وجدت بخيلا
ألشقوتي أُخّرت بعدك للذي ... يدع العزيز من الرجال ذليلا
ألشقوتي أُخّرت بعدك للذي ... يدع السمين من العيال هزيلا
فقالت له أم سلمة: يا زند، ما أصيب أحد بأمير المؤمنين غيري وغيرك؟ قال: ولا سواي، أنت لك ولد منه تتسلين به، وأنا لا ولد لي مه. فضحكت أم سلمة ولم تكن ضحكت منذ مات أبو العباس، وقالت: يا زند، ما تدع أحدًا إلا أضحكته!.
وأنشد أبو دلامة المنصور هذه القصيدة فأبكى الناس جميعًا، وغضب المنصور غضبًا شديدًا. وقال: لئن سمعتك بعد اليوم تنشدها لأقطعن لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أبا العباس كان لي مكرمًا وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء يوسف ﵇ بإخوته، فقل كما قال الله ﷿ " لا تثريبَ عليكم اليوم يغفرُ الله لكم وهو أرحمُ الراحمين ".
فسري عن المنصور وضحك، وقال: قد أقلناك فسل حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس قد كان أمر لي بعشرة آلاف درهم وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء كلهم، وأشار إلى جماعة ممن حضر. فوثب سليمان بن مجاهد وأبو الجهم، فقالا: نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب المورياني: ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية يعني عبد الله بن علي، وكان قد خرج وأظهر الخلاف عليه بناحية الشام، وجمع جمعًا كثيرًا من بقايا بني أمية وقوادهم، وأهل البأس والنجدة.
فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين؛ إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فإني والله مشؤوم. فقال المنصور: إن يمني يغلب شؤمك، فاخرج مع الجيش. فقال: والله ما أحب يا أمير المؤمنين، ولا أرى أن تجرب؛ فإني لا أدري على أي المنزلتين تكون. فقال: دعني فلا بد من مسيرك. فقال: يا أمير المؤمنين؛ والله لأصدقنك، إني حضرت تسعة عساكر هزمتها كلها، وإن شئت بينتها لك؛ فاستفرغ المنصور ضحكًا، وأمره بالتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
1 / 41