وكان أبو السائب كثير الطرب، غزير الأدب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة. وكان جده يكنى أبا السائب أيضًا، وكان خليطًا للنبي ﷺ قبل الإسلام؛ وأقبل الإسلام فكان النبي ﷺ إذا ذكره يقول: نعم الخليط كان أبو السائب لا يداري ولا يماري. واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف المدينة يقدمونه ويعظمونه لشرف منصبه، وحلاوة طربه. قال الزبير بن بكار: كانت سليمة المشاوبية عاشقة لأفلح مولى الزهريين، فأتاها يومًا أبو السائب المخزومي فقال: حدثيني، هل أتاك من حبيبك رسول؟ قالت: لا. قال: فهل قلت في ذلك شعرًا؟ قالت: نعم، ثم أنشدته:
ألا ليت لي نحو الحبيب مبلّغًا ... يبلّغه التسليم ثمّ يقول
سليمة نضوٌ ما ترجّى حياتها ... من الشوق والشوق الشديد قتول
تعالج أحزانًا وتبكي صبابةً ... وأنت لما تلقاه فيك جهول
فقال أبو السائب: أنا والله رسولك؛ فحفظ الشعر وتوجه نحو أفلح في يوم صائف شديد حره، فلقيه رجل من الأنصار فقال: يا أبا السائب؛ من أين أقبلت؟ قال: من عند سليمة المشاوبية. قال: وإلى أين تريد؟ قال: أريد أفلح مولى الزهريين أبلغه رسالتها. قال: أفي مثل هذا الوقت؟ قال: إليك يابن أخي؟ فإن الجنة حفت بالمكاره؛ وما عبد الله إلا بالصبر على ما ترى.
وقال الزبير: حدثني جدي قال: أتاني أبو السائب المخزومي في ليلة بعدما رقد الناس، فأشرفت عليه وقلت: هل من حاجة؟ فقال: سهرت فذكرت أخًا لي أستمتع به فلم أجد أحدًا سواك، فلو مضيت بنا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا؟ قلت: نعم! فنزلت فما زال في حديث إلى أن أنشدته في بعض ذلك بيتي العرجي:
باتا بأنعم ليلةٍ حتى بدا ... صبحٌ تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فقال: أعده، فأعدته فقال: أحسنت والله! وامرأتي طالق إن نطقت بحرف حتى أرجع إلى بيتي غيره، فمضينا فتلقانا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منصرف من ماله يريد المدينة. فقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فالتفت إلي، وقال: متى أنكرت عقل صاحبك؟ قلت: منذ الليلة، قال: لله أي كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالًا له على بغلة، وكان أثقل الناس جسمًا، ومعه غلام له على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم عليه ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:
فتلازما عند الفراق صبابةً ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فالتفت إلي وقال: متى أنكرت عقل صابحك؟ قلت: آنفًا؛ فتركني وانصرف، فقلت: أفتدعه هكذا؟ ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، قال: صدقت، يا غلام، هات قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويدافع بيده؛ فلما أطال نزل الشيخ عن البغلة وقال: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه بأهله؛ فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته الخبر فضحك. وقال: قبحك الله ماجنًا فضحت شيخًا من قريش وعذبتني وأنا لا أقدر أن أتحرك.
وروى مصعب بن الزبير عن عبد الله، قال: كان عروة بن أذينة نازلًا في دارى بالعقيق فسمعته ينشد لنفسه:
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلّها
ولعمرها إن كان حبّك فوقها ... يومًا وقد ضحيت إذًا لأظلّها
فإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقةٍ فأدقّها وأجلّها
لما عرضت مسلّمًا لي حاجةً ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلّها
منعت تحيّتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا وقال لعلّها معذورةٌ ... في بعض رقبتها فقلت لعلّها
1 / 18