Ururinta Jawharadaha
جمع الجواهر في الملح والنوادر
فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوائح الغربة لوجد منال البشر قريبًا، ومحط الرحل رحيبًا، ووجه المضيف خصيبًا.
ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه موفق إن شاء الله تعالى.
فأجاب بما في نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه، إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما شكاة سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه كما زعم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله سلامًا وقيامًا على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات العلوي، وما كنت لأوثر أحدًا على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهده التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل. فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:
فإن أك قد فارقت نجدًا وأهله ... فما عهد نجدٍ عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على بعض ما في نفسي بلغت له بعض ما فيه النية، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
وما النفس إلاّ نطفةٌ بقرارةٍ ... إذا لم تكدّر كان صفوًا غديرها
وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتبًا، واقترفنا ذنبًا؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله؛ ولست أسومه أن يقول: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. ولكني أسأله أن يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
فحين ورد الجواب، وعين العذر رائدة تركناه بعره، وطويناه على غره وعمدنا لذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه؛ وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وربكنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه ولا طرنا به. ومضى على ذلك الأسبوع ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأيام ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه، وتوردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها علي، فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه شرعة وده وإن لم تصف، وألبس حلة بره وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعًا عن مد؛ فإني وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، سيىء المنقلب: ضيق المضطرب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفًا في الوداد، إن زرت زار، وإن عدت عاد. وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولًا، وصارفني في الإقبال ثانيًا. فأما حديث الإقبال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم أختار قعود التغالي مركبًا، وصعود التعالي مذهبًا، وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله تعالى أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحًا إلى برح، ونكأه قرحًا على قرح، ولكنها مرة مرة ونفس حرة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أعره من نفسي، وأنا أعلم لو أني أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه:
أحبّك يا شمس المعالي وبدرها ... وإن لامني فيك السّها والفراقد
وذاك لأنّ الفضل عندك باهرٌ ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
1 / 100