Jamal Din Afghani
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
Noocyada
وقد لجأ بعض الإفرنج إلى الإطالة في إثبات القضاء. والتاريخ علم أفضل من الرواية، علم البحث عن سير الأمم صعودا وهبوطا، وطبائع الحوادث وما فيها من تغيير في العادات والأخلاق والأفكار، وفي الإحساس والوجدان. ولو كان الأمر بيد البشر وحدهم لما حدث قيام أو سقوط. هنا يلجأ الأفغاني إلى تحليل التجارب التاريخية للأمم والشعوب، أسباب النهضة وأسباب الانهيار. وهو أفضل من علم الرواية أي المنهج النصي، بالرغم من عدم خلو الأسلوب من خطاب الوعظ والإرشاد، مثل
أنتم يا عصبة الرحمن وأولياء الشفعة .
4
ويعطي الأفغاني تحليلا نفسيا لآثار القضاء والقدر في النفس بحيث تدفع على الفعل أكثر مما تؤدي إلى الخمول؛ فالقضاء والقدر إذا ما تميز عن الجبر يخلق في الإنسان القدرة والإقدام والشجاعة والبسالة واقتحام المهالك. فإذا كان الأجل محدودا فلا يجدي الخوف
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . اندفع المسلمون للفتح، وقضوا على الإمبراطوريتين، الفرس والروم، في أقل من ثمانين سنة، وعمروا الأرض، وصعدوا الجبال بالاعتقاد بالقضاء والقدر، وثبتت أقدامهم للعلى، لا فرق بين نساء وأطفال وشيوخ، وقد استكانوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي. ويشهد التاريخ أن كل القائمين العظام كانوا يؤمنون بالقضاء والقدر مثل كورش الفارسي (كيخسرو)، والإسكندر الأكبر، وجنكيزخان، ونابليون. فالاعتقاد يخلص النفس من الجبن، وهو الذي يعوق عن التمدن. ولم يجد الأفغاني إلا الغزالي للاستشهاد به على أن التوكل والركون إلى القضاء من مطالب الشرع، في النشاط والعمل وليس في البطالة والكسل. ليس التوكل هو سبب التخلف بل صدمة الاستعمار، من الشرق التتار ومن الغرب الأمم الإفرنجية. الإسلام لن يموت فالعقائد حية. إنما المطلوب هو الاعتدال. وقد فتح العثمانيون البلاد بعد صدمة الصليبية والتتار، ودانت لهم البلاد الإفرنجية بفضل القضاء والقدر.
وكما حدث الخلط عند الإفرنج بين الجبرية والقضاء والقدر حدث خلط مماثل عند بعض العلماء المسلمين المزيفين بين القدرية وهم المعتزلة والجبرية. فهاجم أحدهم الزمخشري ومؤلفه
الكشاف ، وأخرج من قرأه من عداد أهل السنة، وأدخله في زمرة الملحدين؛ لأنه من المعتزلة المدافعين عن الجبرية! لذلك أدانه ابن خلدون؛ لأنه أشعري، وكل من خالف ابن خلدون فهو مارق من الدين مضل للمسلمين. فالشيخ لا يعلم أن مذهب المعتزلة هو خلق الأفعال، أي حرية الاختيار مع أنه يدعي أنه من كبار مدرسة السليمانية، درس كل العلوم العقلية والنقلية والخلافيات. ويضع الجبرية والمعتزلة القدرية في سلة واحدة. ويرى العالم المزيف أن كل الأفعال مسندة إلى الله كما يقول الزمخشري المارق المضل! ويذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية انتقاء لإثبات ذلك وينقد تفسير الفخر الرازي وشرح الكشاف لابن الطيبي. ويدافع الأفغاني عن المعتزلة ككل ولا ينقد كل آرائهم. ففيها الحسن والقبيح. ويمدح واصل بن عطاء لاعتزاله مجلس الحسن البصري وخلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقوله بالمنزلة بين المنزلتين، بين الخوارج وأهل السنة. ثم ينقد الجبرية لنسيانهم الجزء الاختياري الكسبي. فينتهي الأمر إلى المذلة. وقد ينطبق المذهب على العالم الروحاني أكثر من العالم الجسماني؛ لأن الأول خال من الإرادة وحرية الاختيار . وينقد تفسير «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بأن التعوذ معرفة الله بالمحدثات كلها وسبق القضاء الأزلي. فالله أقدر من الشيطان ، ومحيط بكل الكائنات والحوادث، وهو تناقض. فإما أن يعصي الشيطان وهو ما ينال من القدرة الإلهية أو يكون مسلطا على الإنسان مما ينال من الحرية الإنسانية. فعندما يتهم العالم المزيف الجبرية قاصدا المعتزلة بالقول بأن الاستعاذة من الشيطان لا فائدة منها يكون أقرب إلى الجبرية وأبعد عن القول بالحرية الإنسانية عند المعتزلة. كما يدافع الأفغاني عن ابن خلدون ضد اتهامه بالتحذير من الزمخشري بإيراد نص منه. وينتهي الأفغاني إلى الدفاع عن القضاء والقدر؛ لأنه حال الربوبية في الخلق معتمدا على الأستاذ علي منلا خان بأن القضاء هو ما قضى به الله في الخلق وسبق علمه في اللوح المحفوظ أزليا، والقدر ما نزل على الأرض بالتدريج حادثا ومسببا. ويكون محمد عبده قد تقدم خطوة على أستاذه ببقائه أشعريا في التوحيد وتحوله إلى الاعتزال في العدل لقوله بالحسن والقبح العقليين وبحرية الاختيار دون الاكتفاء بحسن تأويل القضاء والقدر.
5 (2) العقل والتكليف
وإذا كان أصل العدل يشمل عقيدتين عند المعتزلة، خلق الأفعال، والعقل أساس النقل أو الحسن والقبح العقليين فإن الأفغاني يحاذي أصل العدل عن المعتزلة ولا يدخل إليه كلية كما فعل محمد عبده. فالعقل مناط التكليف قبل ورود الشرع عند الأفغاني. وهو أعظم ما خلق الله. كرم الله الإنسان به؛ لأنه أشرف المخلوقات. وهنا يبدو الأفغاني معتزليا قحا. وإذا صح القضاء والقدر بمعنى الجبر بطل الثواب والعقاب. ويعتمد الأفغاني على منلا خان لإثبات إباحة الإسلام الجدل بالتي هي أحسن استجلاء للحقيقة، أي استعمالا للعقل. وتم تكليف الإنسان وحده دون الحيوان والجماد لتحمله مسئولية الأمانة باختيار حر. فعل الإنسان مرجح بين الفعل والترك، والأفعال خارج الترجيح لا ثواب ولا عقاب عليها. تسخير كل ما في الأرض له وجعله خليفة الله في الأرض. وهذا كله لا يتعارض مع علم الله بكل المحدثات وقدرته على كل شيء. فكلا الإثباتين شرعيان، عقل الإنسان وحريته، وعلم الله وقدرته .
خلق الله الإنسان وأودع فيه العقل لمعرفة أسرار الكون كما قال ابن عربي:
Bog aan la aqoon