ونتج عن ذلك ما ينتج عادة من مفاسد المدنية؛ فظهر الغش، وفشت الدعارة والعهر، وكثرت اللصوص والشطار، وكثرت الخانات، فكتب في غش الصناعات وذم النبيذ وذم الزنا وإثم السكر وحيل اللصوص وأخلاق الشطار.
ومن هنا رمي الجاحظ بالتناقض، واتهم بالتذبذب، وفات منتقديه أن شأنه فيما كتب شأن المصور لا يلام إذا صور إنسانا كما هو، بل يلام إذا أغفل شيئا من تقاطيعه وملامحه.
نعم، إنك كثيرا ما تجد للجاحظ رأيا في قضية، ثم تجد له رأيا مناقضا للأول، ولعل منشأ ذلك حكاية آراء الناس سلبا وإيجابا، أو أن الرجل تعمق في فهم حقائق الأشياء حتى بلغ غاية حالت بينه وبين الجزم في الرأي، أو أنه هازئ بالآراء ساخر بالنظريات، ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس.
لا يركن الجاحظ إلى الخيال، ولا يهيم في الأحلام الشعرية؛ ولذلك ندرت في كتابته الاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز؛ فهو غني بصادق بيانه عن الاستعانة بعكاكيز البلاغة، ولكن مع ذلك غير ملهم في المواضيع الشعرية، أعطي جميع مواهب الكاتب الخلقية والكسبية، وأخطأه من مواهب الشاعر الخيال والأوهام والأحلام. وسرعة الملاحظة وحدة الفطنة في الكاتب - وله منهما أوفر نصيب - تقومان مقام الخيال والإلهام عند الشاعر.
فسح الجاحظ للنثر العربي مجالا واسعا، فمهد سبل التأليف في كثير من العلوم والفنون، ومزج خشونة العلم بنعومة الأدب، وافتن في التهكم والدعابة.
سخر الجاحظ مبني على خفة روحه أولا، واطلاعه على العقائد والمذاهب ثانيا، ودرسه أخلاق الناس ثالثا. يطلب النكتة للأحماض، ويرسلها هزؤا بخرافات بعض الناس وعاداتهم ومواضعاتهم ومصطلحاتهم.
ما أظن أن أديبا من العرب أدرك الغاية من الأدب كما أدركها الجاحظ؛ فالأدب الذي لا يمثل لك عصر صاحبه هو ناقص، وأي أدب أدق تمثيلا وأحسن تصويرا لزمان صاحبه من أدب الجاحظ؟!
لو توفر أديب عصري على دراسة البقية الباقية من كتب الجاحظ لأمكنه أن يستخلص منها تاريخا مدنيا لذلك العصر المبارك، فضلا عن القصص والروايات التي تمثل حياة القوم إذ ذلك في أخلاقهم ومجالسهم وملابسهم ومذاهبهم الدينية والسياسية، وجدهم وهزلهم، وما إلى ذلك من وجوه حياتهم؛ وما ذلك إلا لأن الجاحظ عرف زمانه وأهله فمثلهما أصدق تمثيل، وتلك من أكبر مزاياه التي تفرد بها. •••
كان النقد في أدبنا لا يعدو صحة اللفظ وحسن الصياغة، وعلى هذه القاعدة انتقدت كتب الجاحظ وأعطي الرجل حقه من الإكبار، وسكت عما سوى ذلك. على أنني أرى أن الجاحظ في مواضيعه التي عالجها أعظم منه في سمو أسلوبه وعذوبة لغته، فإنه حاول أن يكتب عن كل شيء رآه أو وعاه أو سمع به، وكان موفقا فيما حاول.
ليس في مواضيع الجاحظ عناصر خيالية، بل هي حقائق ملموسة يعمد إليها ببصيرة نافذة وفكر متوقد وفهم دقيق، فيفصح عنها بأفصح لغة وأروع أسلوب، فيجعلها محببة إلى القارئ، وذلك هو الأدب الحق يصدقك ويسرك.
Bog aan la aqoon