مقدمة: بقلم المترجم
يكاد يجمع الباحثون على أن «حرية الإرادة» من أعقد الموضوعات التي درستها الفلسفة على الإطلاق، وأكثرها إثارة للضجيج والجدل، منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر: من أفلاطون حتى سارتر.
فهو من بين الموضوعات القليلة التي اشتركت في دراستها علوم متعددة؛ إذ يضرب بجذور عميقة في: الفلسفة، واللاهوت، والاجتماع والأخلاق، وعلم النفس والأنثروبولوجيا، والقانون والبيولوجيا ... إلخ. بل إن علماء الطبيعة أنفسهم دخلوا أطراف نزاع في هذه المشكلة. وربما لا يكون ذلك غريبا في حد ذاته طالما أن الموضوع يتعلق بوجود الإنسان ذاته، وهو لغز محير، لكن الغريب حقا، أنه رغم تكاتف هذه العلوم جميعا في دراسة هذه المشكلة، فإن الفشل في حلها كان عاما ؛ إذ لا يزال يحتدم الجدل حولها حتى الآن، ولا يزال لها مكانها المرموق في الفلسفة المعاصرة.
فهي من الناحية الفلسفية إحدى المشكلات الرئيسية في علم الأخلاق المعاصر؛ ذلك لأن الأخلاق إنما تقوم على مبدأين أساسيين؛ هما: الاستحسان والاستهجان، «أو اللوم والثناء»، وهما ينهاران مع غياب الحرية؛ فلو لم يكن في استطاعتك أن تقول لشخص ما إنه ينبغي عليك أن تفعل الفعل «س» وأن تمتدحه إذا فعله، وتلومه إذا لم يفعله، فلن يكون ثمة حكم أخلاقي. وإذا لم يكن في استطاعة هذا الشخص إلا أن يفعل الفعل «ص»؛ فسوف يكون من اللغو - يقينا - أن نقول إنه كان ينبغي عليه أن يفعل الفعل «س»، مثلما يكون من اللغو أن نقول عن الحجر الذي يسقط من حالق إنه كان ينبغي عليه أن يسقط إلى أعلى لا إلى أسفل؛ وباختصار ما لم تكن لدى الإنسان قدرة على الاختيار، فسوف تغدو الأخلاق بلا معنى.
1
ومن هنا فإننا نجد الفيلسوف الألماني المعاصر «نيكولاي هارتمان
Nicolai Hartman » على سبيل المثال يقيم مذهبه في «الأخلاق على مبدأ أساسي يقول: إن الفعل الخلقي القائم على الإرادة الحرة هو وحده الذي له قيمة، ويخصص «هارتمان» ثلث مؤلفه الضخم الموسوم باسم «علم الأخلاق
Ethics » لدراسة مشكلة حرية الإرادة».
2
كما أن هذه المشكلة لا تزال، حتى يومنا هذا، تلعب دورا بارزا في فلسفة الدين، بل إن بعض المذاهب اللاهوتية ينظر إلى حرية الإرادة على أنها دليل قوي على وجود الله. فها هو ذا جانب «روحي» خالص لا يخضع للطبيعة ولا للتفسير العلمي، أفلا يدل ذلك على أن الطبيعة ليست كلها «مادية»؟ ومعنى ذلك أنهم يتخذون من هذه المشكلة «الملغزة» التي «استعصى حلها» برهانا «على وجود قوة روحية عليا هي الله». وهم من ناحية أخرى يهتمون بدراسة هذه المشكلة؛ لأن تعاليم الدين لا تقوم لها قائمة إلا إذا كان الإنسان حرا، (رغم ما في ذلك من مفارقة)، أعني إلا إذا كان الإنسان قادرا على عصيان هذه التعاليم وعلى أن يسلك ضدها، بل ضد الله نفسه وضد رغباته؛ بحيث يمكن بالتالي أن يكون مسئولا عن أفعاله. ومع أن علماء اللاهوت يعترفون صراحة أنها مشكلة عسيرة الحل حتى بالنسبة للدين نفسه، فإنهم يصرون - مع ذلك - على حذفها من نطاق العلم، بحجة أنه ليس في مقدوره حلها.
Bog aan la aqoon