5
فالأفكار هي انعكاس للانطباعات، والقاعدة التي تنطبق بغير استثناء هي أن «كل فكرة بسيطة لها انطباع بسيط يشبهها: وكل انطباع بسيط له فكرة تقابله.»
6
وينتهي هيوم من هذا الربط المستمر بين الإدراكات المتشابهة إلى القول بأن هناك صلة قوية جدا بين الانطباعات والأفكار، وأن وجود أحدهما له أثر قوي على وجود الآخر. ومثل هذا الترابط المستمر. لا يمكن أبدا أن ينشأ بمحض الصدفة، لكنه يبرهن بوضوح على اعتماد الانطباعات على الأفكار، وعلى اعتماد الأفكار على الانطباعات. وإذا أردت أن أعرف في أي جانب يقع هذا الانطباع، فما علي إلا أن أتدبر النظام الذي تظهر فيه الانطباعات لأول مرة: وسوف أجد، بالخبرة المستمرة، أن الانطباعات البسيطة يكون لها - باستمرار - الأسبقية على أفكارنا المقابلة لها، لكنها لا تظهر مطلقا في نظام مضاد ... والاتصال الدائم بين إدراكاتنا المتشابهة برهان مقنع على أن الواحد منهما علة للآخر، وأسبقية الانطباعات دليل مقنع أيضا على أن انطباعاتنا علة لأفكارنا لا على أن أفكارنا هي سبب انطباعاتنا.
7
ومعيار صواب فكرة من الأفكار هو - تبعا لنظرية هيوم - إمكان تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي نشأت. ويقول هيوم، تطبيقا لهذا المقياس على فكرة النفس الموحدة، إنه لا وجود لمثل هذه الفكرة: «وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ... ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائما لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها؛ لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائما على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، الحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضا، ويستحيل عليها أبدا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة، وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تستمد من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هناك فكرة كهذه.»
8
وهكذا نجد أن منهج الاستبطان، الذي استخدمه هيوم، لم يساعده في الكشف عن النفس الموحدة التي ترد إليها الإدراكات الجزئية المختلفة: «... إنني إذا ما أوغلت داخلا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتني دائما أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، ... لكنني لا أستطيع أبدا أن أمسك ب «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدا أن أرى شيئا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك ...»
9
وهكذا انحلت النفس التي استبطنها هيوم إلى مجموعة من الانطباعات والأفكار التي يرتبط بعضها ببعض بطريقة خاصة، ويستدعي بعضها بعضا وفقا لقوانين معينة. وما العقل «إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضا في سرعة هائلة لا يمكن تصورها، وهي في حركة وتدفق لا ينقطعان ... فالعقل أشبه ما يكون بالمسرح، تتعاقب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبا سريعا، واحدا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرورها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكون منها تركيبات، لا نهاية لاختلافها، ولا حد لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأن «النفس» لا تكون نفسا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلا ولا هي تؤلف «هوية» واحدة تجمع العناصر المختلفة ... على أن تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يضللنا، إذ ليس العقل إلا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»
Bog aan la aqoon