10
أعني يتكامل «الفلك» أو إن شئت فقل يتكامل الإطار.
وبعدئذ يجيء ما يملأ ذلك الإطار، وأول ذلك هو الأركان الأربعة التي أسلفنا لك القول فيها، وهي: النار والهواء والماء والأرض، ولا يفوت جابرا هنا أن ينبه إلى أن «الفلك» - أي الإطار الأولي - ليس بذي مادة في ذاته، فهو كالمفاهيم الهندسية: الدائرة والخط والنقطة، كلها تصورات عقلية؛ فالدائرة هي ما يحيط بغض النظر عن الجرم الذي تحيط به، والخط طول بلا عرض ولا جسم بغض النظر عن طبيعة الشيء الذي يمتد خطا، والنقطة شيء يتصوره العقل لا الحواس؛ لأنها هي ما ليس له أبعاد، وليس فيما تحسه الحواس شيء بغير أبعاد، فكما نقول عن الدائرة أنها تحيط بلا جسم، فكذلك نقول عن الفلك - الذي هو الأوليات الأربعة - إنه هو الذي يحيط بالكون دون أن نذكر ماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الكون المحوط.
على أنه لا مندوحة لنا من افتراض وجود «جوهر» ما، ليكون هو نواة التكوين؛ فكأنما هذا الجوهر هو بمثابة طبيعة خامسة تضاف إلى الطبائع الأولية الأربع؛ «فالجوهر هو القابل لكل شيء، وهو الذي في كل شيء، ومنه كل شيء، وإليه يعود كل شيء كما خلقه بارئه تعالى ربنا ومولانا، جعله في كل، وكل إليه راجع.»
11
وما نكاد نبدأ في تصور هذا الجوهر كيف يتشكل ويتعين في صور معلومة، حتى نرانا ملزمين بالضرورة العقلية أن نفرض قيام ضروب من التشكل والتعين، هي التي نسميها بالمقولات، والتي قسمها أرسطو إلى عشرة؛ فهل بوسعك أن تتصور شيئا يتخذ شكلا معينا دون أن تفرض أنه لا بد أن يكون ذا كم معلوم، وذا كيف معلوم، وذا زمان يحدث فيه، وذا مكان يتخذ حيزه في أبعاده، وذا علاقات متصلة بسواه، وذا لواحق تتبعه، وذا وضع يتخذه، وذا فعل يصبه على غيره، وذا انفعال يتلقى به فعل غيره عليه؟ هذه إذن هي المقولات العشر التي تفرض نفسها على العقل فرضا، إذا أراد هذا العقل أن يتصور أن شيئا ما سيطرأ عليه تشكل وتعين.
ويحدد جابر المراد بهذه المقولات؛ فأما الجوهر فهو - كما أسلفنا - الشيء القابل للتشكل على أي صورة، فيه كل شيء ومنه كل شيء يتركب، وإليه ينحل كل شيء؛ فلئن اختلف الحيوان والنبات والجماد في خصائص تميزها، فهي كلها مشتركة في جوهر واحد يدرك بالعقل لا بالحس، «فليس يمكن أحدا لمسه، ولا إذا مسه وجد له لمسا، ولا يقدر أن يأخذ منه شيئا بيده.»
12
هذا الجوهر من شأنه أن يحمل الصفات الأولية: يحمل الحرارة أو البرودة أو اليبوسة أو الرطوبة؛ ولئن كانت هذه الصفات الأولية تجريدات وليست أجساما ألا أنها ذوات وزن، وأما الجوهر فهو جرم وذو وزن؛ نعم أن هنالك من الفلاسفة من يدرجون الجوهر مع الأوليات ويجعلونها بلا وزن، لكن «هذا كلام من لم يستغرق في العلم حق استغراقه، وإنما نظر فيه صفحا».
13 «فإنه قد وجب الآن على التحقيق أن للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أوزانا وأن للجوهر وزنا، لا بد من ذلك، وإلا فوجب أنا إذا جمعنا ما لا يرى ولا يوجد - مثلا في الحرارة واليبوسة - إلى ما لا يرى ولا يوجد، ولا وزن لأحد منهم، لم يكن منه شيء؛ وكذلك إذا جمعنا لا شيء إلى لا شيء كان من الجمع لا شيء؛ وكذلك لو جمعنا ما لا يوجد ولا يرى ولا وزن له - وهو مثل البرودة واليبوسة - إلى ما لا يوجد ولا يرى ولا له وزن، كان منه شيء لا يرى ولا يوجد ولا له وزن، وبطل سائر تلك المحمولة عليه؛ لأن قولنا: لا يوجد ولا يرى ولا وزن له، إنما هو حد اللاشيء.»
Bog aan la aqoon