15
فما مؤدى هذا؟ مؤداه أن مصدر التلقين هو الوحي، ينزل على النبي ثم يتوارثه الخلفاء من بعده، وعن هؤلاء يكسب الكاسبون. فليس العلم عقلا ولكنه نقل، ليس هو بالكشف المبتكر الأصيل بالنسبة إلى العالم الكاشف، بل هو تنزيل من السماء. وعلى هذا الضوء نفهم اسم «الكيميا» لماذا أطلق على مثل هذه الأبحاث التي قام بها «جابر»؛ فهي لفظة معربة من اللفظ العبراني، وأصله كيم يه، ومعناه أنه من الله.
16 (3) الأستاذ والتلميذ
لهذا كان للأستاذ الذي ينقل العلم للمتعلم منزلة مقدسة عند «جابر»؛ وإنا لننقل هنا مقالة كتبها في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ،
17
ونعتقد أنها من الروائع في ميدان التربية، ولن ندخل على لفظها من التعديل إلا بمقدار ما يجعلها مناسبة لسمع القارئ الحديث، قال:
فأما ما يجب للأستاذ على التلميذ، فهو أن يكون التلميذ لينا قبولا لجميع أقواله، من جميع جوانبه، لا يعترض عليه في أمر من الأمور ... فإن ذخائر الأستاذ العالم ليس يظهرها للتلميذ إلا عند السكون إليه، وحمده غاية الحمد؛ وذلك أن منزلة الأستاذ هي منزلة العلم نفسه، ومخالف العلم مخالف الصواب، ومخالف الصواب واقع في الخطأ والغلط، وهو ما ليس يؤثره عاقل؛ فإذا لم يكن التلميذ على هذا المقدار من الطاعة للأستاذ، أعطاه الأستاذ قشور العلم وظاهره.
ولست أريد بطاعة التلميذ للأستاذ أن تكون هذه الطاعة في شئون الحياة العملية الجارية، بل أريدها طاعة في قبول العلم والدرس وسماع البرهان على أستاذه، وحفظه، وترك التكاسل والتشاغل عنه؛ ذلك أن شئون الحياة العملية لا قيمة لها عند الأستاذ الرباني؛ لأن الأستاذ هو كالإمام للجماعة التي هو قيم بها، وكالراعي، والسائس للأشياء التي يتولى صلاحها وإصلاحها؛ فمتى عسرت عليه، أو عسرت عن التقويم، فإما أن يطرحها، وإما أن يتعبه تقويمها إلى أن تستقيم ...
وينبغي للتلميذ أن يكون صامتا للأستاذ، كتوما لسره؛ لأن التلميذ في هذه الحال كالأرض المزروعة التي يتخذها الإنسان لصلاح حاله؛ فإن كانت تربتها طيبة استقر فيها البذر، فأزكى وأينع، ورد أمثال بذره؛ وإن كانت تربتها فاسدة قبيحة، هلك البذر فيها ولم يثمر إلا ما هو قليل النفع ... وواجب التلميذ أيضا أن يكون منقطعا إلى الأستاذ دائم الدرس لما أخذ عنه، كثير الفكر فيه؛ فليس في وسع الأستاذ إلا أن يعلم تلميذه أصول العلم، وعلى التلميذ بعد ذلك أن يروض نفسه على ما قد تعلم.
فأما ما يجب للتلميذ على الأستاذ فهو: أولا - أن يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم ؛ وأعني بالقريحة جوهر المتعلم الذي طبع عليه، ومقدار ما فيه من القبول، والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه، وقدرته على حفظ ما قد تعلمه وعلى تذكره؛ فإذا وجد الأستاذ تلميذه قبولا، ذا أرض زكية، وجوهر ترتضع فيه المعلومات كلما ارتسمت فيه، أخذ يسقيه أوائل العلوم التي تتناسب مع قدرته على القبول، وتتناسب مع سنه وخبرته؛ ولم يزل به يلقنه العلم أولا أولا، وكلما احتمل الزيادة زاده، مع امتحانه فيما كان قد تعلمه؛ فإذا كان حافظا لما كان سقاه وغير مضيع له، زاده في الشرب والتعليم، وإن وجده ينسى ويتخبل في حفظه، أنقص له المقدار، وعاتبه على ذلك عتابا كالإيماء من غير إمعان في التصريح؛ ثم امتحنه بعد ذلك ثانيا وثالثا؛ فإن وجده جاريا على ديدن واحد في النسيان، هزه بالعتاب وأوجعه بالتقريع، وبالغ في توبيخه.
Bog aan la aqoon