ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر
31
بل إن الحقد قد تخطى أبعاد الزمن، حتى أدرك مؤرخا للعلم في العصر الحديث، أراد أن يضع جابر بن حيان في موضعه من تاريخ الكيمياء ، فاستكثر عليه أن يكون هو صاحب النظريات الكيموية ذات القيمة التي تنسب إليه في أوروبا، فراح يشطر إنتاجه شطرين: شطر فيه الدسم العلمي، نسبه إلى مؤلف قال عنه إنه مجهول، وإنه انتحل لمؤلفاته اللاتينية في العصور الوسطى اسم «جابر» ليحتمي بسمعته وشهرته، وشطر فيه تفاهة وغثاثة هو الذي يجوز نسبته إلى جابر العربي؛ أما هذا المؤرخ للعلم الذي أشير إليه، فهو «برتلو»
32
الذي زعم أنه حلل المؤلفات المنسوبة إلى جابر بن حيان في علم الكيمياء، وبعض هذا المؤلفات عربي خالص، وبعضها لاتيني وله أصل عربي، وبعضها لاتيني ولا توجد له صورة عربية؛ حلل «برتلو» هذه المؤلفات وزعم أن ثمة تفاوتا في مادتها وفي أسلوبها يتطلب التفسير.
ويتخذ «برتلو» من كتاب «الخالص»
33
لجابر بن حيان في ترجمته اللاتينية نموذجا للجانب الناضج من المؤلفات التي تنسب إلى العالم العربي، ويقول إن دراسة هذا الكتاب تدل على أنه ليس ينتسب إلى أصل عربي، لا في منهجه المتميز بإحكام السير في طريق الاستدلال حجة في إثر حجة إحكاما من شأنه أن يجمع المادة العلمية في سياق موحد متسق، ولا في الحقائق الواردة فيه، ولا في مفرداته اللغوية ولا في الأشخاص الذين يرجع إليهم في الفقرات المقتبسة. كل هذه جوانب من الكتاب يراها برتلو قاطعة بأن الكتاب لا يرتد إلى أرومة عربية؛ فعلى الرغم من أنه يشتمل - في رأي برتلو أيضا - على طائفة من الكلمات والعبارات التي ربما تكون مستعارة من جابر العربي، ألا أن المرجح هو أن الكتاب في جملته من عمل مؤلف لاتيني مجهول في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، لم يرد أن ينسب الكتاب إلى نفسه، ونسبه إلى أشهر الأسماء المعروفة عندئذ في علم الكيمياء، ألا وهو اسم «جابر» ليستفيد الكتاب شهرة بشهرة مؤلفه المزعوم.
ومضى برتلو يبحث في المخطوطات التي وجدها في باريس وفي ليدن، والتي تشتمل على مادة في الكيمياء تنسب إلى جابر بن حيان، ثم انتهى إلى أنه على الرغم من أنه لا يجد ما يسوغ نسبتها إلى جابر، إلا أنه لا يرتاب في أن مؤلفها عربي، ألفها بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر الميلادي - في فترة سابقة على اتصال اللاتين بالعرب - فقد وجد هذه الرسائل تختلف أسلوبا عن كتاب «الخالص» الذي أسلفنا ذكره والذي قلنا عنه إنه يحتوي على مادة علمية تتسم بالتفكير المحكم، ولماذا يقطع برتلو بأن هذه الرسائل المخطوطة - غير كتاب «الخالص» - من تأليف رجل عربي مسلم؟ الجواب عنده هو أن لغتها غامضة ومهوشة، وفيها نزعة مشبهة (أي تشبه الطبيعة بالإنسان) فضلا عن اشتمالها على إشارات وابتهالات إسلامية، ولا ينفك مؤلفها يقول في سياق حديثه: إنه سيرسل الكلام في غير تحفظ ولا ألغاز، ومع ذلك فلا تراه أبدا يذكر التفصيلات عن الموضوعات التي يعد قارئه بأنه سيكشف عنها الأسرار والأستار. إن مؤلف هذه الرسائل ليأخذ بالمذهب القائل بأن لكل شيء كيفية ظاهرة وأخرى باطنة، وأن الواحدة منها نقيض الأخرى - وهو المذهب الذي كان شائعا بين الكتاب اللاتين في القرون الوسطى - لكنه لم يذكر شيئا عن توليد المعادن بالكبريت والزئبق على النحو الذي يقال إن جابرا عرف به، أضف إلى هذا كله أن مؤلف هذه الرسائل يختلف عن مؤلف كتاب «الخالص» في أن الأول لا يتردد في أن يجعل للنجوم تأثيرا في توليد المعادن، على أن الثاني يرفض هذا المبدأ. واختصارا، فإن المستوى العلمي لهذه الرسائل، وهي الرسائل التي ينسبها برتلو إلى مؤلف عربي ما، والمستوى العلمي لكتاب «الخالص»، وهو الكتاب الذي ينكر برتلو نسبته إلى جابر العربي مختلفان اختلافا بعيدا؛ مما يدل - في رأي برتلو - على أن الكتب الكيموية المكتوبة باللاتينية والتي طبعت منذ القرن الخامس عشر، لا تنتسب إلى جابر العربي، على الرغم من أنها تحمل على الغلاف ما يفيد بأن مؤلفها هو جابر.
Bog aan la aqoon