الجزائر في خطر
كنت أريد أن أخصص هذا الحيز لعدد من المواضيع الخفيفة الجديرة حقا باليوميات، ولكن الأخبار الخطيرة الأخيرة القادمة من الجزائر دعتني إلى تغيير رأيي؛ أخبار تجعل الإنسان يعتقد كأن أعداءنا كما كانوا يفعلون دائما يشغلوننا بهجوم مفتعل من المشرق في «شتورا» واجتماع مجلس الجامعة، ليحضروا لهجوم مبيت أخطر في المغرب وفي الجزائر بالذات.
ولا زلت أذكر حين استيقظنا ونحن في الجزائر ذات صباح، والأزمة على أشدها بين الجزائر وتلمسان، فوجدنا أن قوات الولاية الرابعة التي كانت تقف على الحياد حتى ذلك الوقت، قد زحفت إلى الجزائر العاصمة في الفجر واحتلتها وأقامت المتاريس في الشوارع والمترليوزات. يومها استبشر الجميع بهذا العمل، وقالوا إنه لا بد قد تم باتفاق مع بن بيلا وأعضاء المكتب السياسي تمهيدا «لتحييد» المدينة؛ إذ كان المسئول العسكري عنها هو الكولونيل عز الدين الذي كان يعارض بن بيلا ورفاقه بشدة، وكانوا من ناحيتهم يرفضون دخول الجزائر طالما هو المسيطر فيها. كان هذا أول عمل عسكري تقوم به قوات من جيش التحرير، وكان كذلك أول تدخل للجيش في الموقف المتأزم، وكان مبعث تفاؤل الجميع أنه عمل قامت به قوات محايدة، وأن الهدف منه تهيئة جو «محايد» يوفر الأمن والأمان لأعضاء المكتب السياسي من كافة الاتجاهات كي يلتقوا ويجتمعوا ويتفقوا وتتحد قيادة جبهة التحرير مرة أخرى. وهكذا قامت مظاهرات شعبية، كل مظاهرة تحمل على رأسها جنديا من جنود الولاية الرابعة، تهتف للجيش المتدخل لحسم الموقف وتحيي احتلاله للمدينة. ورغم هذا كله فبيني وبين نفسي لم أطمئن أبدا لهذا العمل البوليسي المفاجئ، رغم إجماع الزملاء والمعلقين والمحللين على أنه لا يمكن إلا أن يكون قد تم بعلم واتفاق مع بن بيلا وبقية أعضاء المكتب السياسي، لم أطمئن لأن أحدا من الأطراف المتنازعة لم يعلن رأيه في هذا العمل. ومن ناحية أخرى كانت الأزمة في قيادة جبهة التحرير قد خلقت فراغا في الموقف وفي القيادة السياسية للشعب؛ بحيث كانت الجماهير تبحث عن مخرج من هذه الأزمة حتى ولو على حساب قيادة جبهة التحرير كلها أو بتنحيتها؛ بحيث إن بروز الجيش على صورة قوات الولاية الرابعة وأخذهم ذلك الموقف العسكري اسما، السياسي حقيقة، كفيل بإحاطة هذا العمل وإحاطة قوات الولاية الرابعة لهالة «المنقذ» الذي كان يتطلع إليه الشعب طوال الأزمة.
وهذه الحالة النفسية لجماهير الشعب الجزائري كان من المهم جدا أخذها في الاعتبار، تلك الحالة التي دفعتني لأن أكتب «للجمهورية» في رسالتي اليومية إليها من هناك، قائلا إن الوضع قد وصل إلى حد من الممكن أن ترحب فيه الجماهير بأي انقلاب عسكري يقوم داخل جيش التحرير.
ولقد ظللت مصرا على هذا الرأي، غير مطمئن أبدا لتدخل قوات الولاية الرابعة على هذه الصورة رغم إصرار الجميع، ومنهم مراسلون أجانب ومعلقون يعارضون بن بيلا على أنها إجراءات مؤقتة، وأنها كلها ستنتهي حين يحضر أعضاء المكتب السياسي ويتولون زمام السلطة، وأن المشكلة الجزائرية تعتبر على هذا الأساس قد حلت لمصلحة بين بيلا والمكتب السياسي.
ولكن، آه من هذه السلطة وزمامها حين يتذوقها شبان صغار، القليل منهم هو الذي حارب، والكثير هو الذي ركب موجة جيش التحرير الصاعدة، حين يعتقدون أنهم هم الذين جاءوا بالاستقلال وهم الذين أصبحوا حقيقة في أيديهم السلطة، يأمرون فيطاعون ويدخلون الجزائر فتحييهم الجزائر، يستطيعون أن يوجهوا ويسيطروا على أجهزة الإعلام فيها ويسمحوا أو لا يسمحوا لأعضاء الحكومة أو المكتب بالاجتماع.
يومها لا أزال أذكر المناقشة الطويلة التي دارت بين السيد علي خشبة القائم بأعمالنا في الجزائر وواحد من أخلص وأذكى وأنشط أعضاء تمثيلنا الديبلوماسي، وبيني حول هذا الوضع، وكيف استنفدنا جزءا كبيرا من المساء والليل وهو يحاول إقناعي أنه من غير المعقول أن يدور شيء كهذا بعقول قادة قوات الولاية الرابعة، وأنه من المستحيل أن يتصدى بضعة شبان مثلهم يجهلهم الشعب تماما لمسئولية الحكم فيزيحوا بن بيلا وكريم وخيضر وبوضياف ويحكموا هم.
كان الاحتمال في الحقيقة احتمالا واهيا للغاية، كنت كلما قلته لزميل أو صديق عارضني فيه بشدة ولم ير فيه أكثر من توجسات وأوهام من ناحيتي، حتى كدت أتنازل في النهاية عنه وأعتقد أني أحمل الأمور فعلا فوق ما تحتمل في جو يبلغ فيه التفاؤل أشده، والكل على يقين أن الأزمة قد انتهت، خاصة وما توقعه الجميع قد حدث، وعاد بن بيلا فعلا عودة الأبطال إلى الجزائر ومضى كل شيء على أتم ما يرام.
ولكن ها هي ذي الأنباء تطالعنا أن الاحتمال الواهي قد أصبح حقيقة واقعة وأن قيادة الولاية الرابعة قد بدأت توجه الضربات إلى المكتب السياسي بالاتفاق والتضامن مع قيادة الولاية الثالثة أكثر الولايات معارضة لبن بيلا والمكتب السياسي. ها هو الموقف يتكشف فيثبت أني كنت على حق، وأن المعركة الطاحنة التي دارت بين زعماء جبهة التحرير قد دفعت ثمنها جبهة التحرير نفسها بحيث فقدت هيبتها التنظيمية، وبحيث أصبح كل ضابط صغير من حقه أن يكون بن بيلا أو بوضياف، ومن حقه أن يقف ليعارض إدماج الولايات وتجميع قواتها في جيش وطني واحد، خاصة إذا كان قد جرب أن يحكم وأن يأمر فيطاع وأن يتذوق سحر السلطة. ولا بد أن في السلطة من السحر ما لا تستطيع النفس البشرية مقاومته؛ فما جربها أحد مرة إلا ووقع صريعا واستعد لمحاربة الدنيا كلها واستعمال أوعر الأساليب وأحطها لكي يستمر ينعم بها ويتذوقها؛ إذ هذا بالضبط ما حدث؛ فما كاد قواد الولاية الرابعة يقومون بانقلابهم العسكري الصغير ويحتلون مدينة الجزائر، ويستمر احتلالهم لها ما لا يزيد عن الشهر، حتى أصبحوا حكاما، وحتى دخلوا هم الآخرون المعركة الناشبة حول من يحكم في الجزائر خاصة والوضع في مصلحتهم. فإذا كان الخلاف بين بن بيلا وبوضياف هو خلافا على من سيتولى الحكم بعد بضعة أسابيع أو شهور، فهؤلاء الضباط يحكمون الآن فعلا، وباستطاعتهم الاتصال، إن لم يكن قد اتصلوا فعلا بباقي قواد الولايات الأخرى، وتوزيع المناصب وعمل حكومة من مجلس الولايات. ومن سخرية القدر أن مجلس الولايات هذا هو الذي احتكم إليه بن بيلا وبن خدة منذ بضعة أسابيع لفض النزاع بينهما. ومن يدري ما داموا سيحكمون، قد يبرز لهم من ينظر الوضع ويجعله قانونيا، وينادي بأن جيش التحرير هو الذي يجب أن يحكم ما دام هو الذي حرر البلاد، وربما علمهم أيضا كيف يتبنون الشعارات وينادون باشتراكية بن بيلا وعروبته وديمقراطية بوضياف وبن خدة.
وبعد.
Bog aan la aqoon