Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Noocyada
فهل نستطيع أن نستنتج شيئا من هذه الحقيقة؟ هل يمكن القيام بتحليل اجتماعي نفسي للمثقف العربي الذي يعايش الغرب طويلا، ويقود الحملة التي تهدف إلى فضح الدوافع الخفية للاستشراق والتشكيك في موضوعيته؟ لا شك أن هذا ميدان لا يسمح إلا باستبصارات يستحيل أن تأخذ شكل المعرفة المبنية على الدليل والبرهان، ومجال الاجتهاد فيه واسع ومتعدد الاتجاهات إلى أقصى حد. ويكفي أن أشير بكل وضوح إلى أنه لا شيء مؤكد في موضوع كهذا، وكل ما سأقدمه استنتاجات شخصية يستطيع القارئ تعديلها كما يشاء، أو رفضها كلها إذا أراد. (1)
أول ما ينبغي أن نلاحظه هو أن نظرة أمثال هؤلاء المثقفين إلى الاستشراق أعقد بكثير من نظرة أصحاب المنطلق الديني. ففي الحالة الأخيرة هناك مواجهة مباشرة بين نظرة إيمانية ونظرة عقلانية، بين التسليم والتحليل، وتتحدد المواقف بوضوح وبساطة: فالمدافع عن التراث يقف على أرضه الخاصة، ويتكلم لغته الخاصة، ويتبع منهجه (أو لا-منهجه) الخاص، بينما المستشرق يصب التراث في قوالب ثقافته هو، وتتصادم نتائجه حتما مع الصورة التقليدية التي رسمها التراث لنفسه طوال تاريخه.
ولكن المواجهة بين العربي المتشبع بالثقافة والمناهج الغربية، وبين الغربي الذي يوجه بحثه إلى الشرق، أعقد من ذلك بكثير، إنها مواجهة بين شرقي مستغرب وغربي مستشرق. فهنا تتداخل الخيوط وتتشابك العلاقات ويختفي في ذلك التضاد البسيط الواضح الذي رأينا أنه يفصل بين الشرقي المؤمن والغربي الناقد. ومن الطبيعي أن يتساءل العربي الذي يستوطن الغرب، والذي اندمج فيه، عن السبب الذي يجعل المستشرق «غير مندمج» في الشرق، وأن يقارن بين إزالته هو للحواجز مع الثقافة التي أصبح مندمجا فيها، وبين إقامة المستشرق لكثير من حواجز ثقافته الخاصة إزاء الشرق، ونظرته إلى موضوع دراسته بطريقة لا تخلو من الترفع، حتى ولو كان ممزوجا بالتعاطف. (2)
على أن عملية اندماج المثقف العربي في الغرب، لا تخلو من قدر من المقاومة، ومن الرغبة في تأكيد الذات. إن مشكلة الهوية تثار أمامه في كل لحظة من حياته، ومن الطبيعي أن يتجه، وهو يعيش وسط ثقافة غير ثقافته، إلى تأكيد أصوله الأولى كنوع من مقاومة الذوبان في الهوية الجديدة.
إن الشرق، أو الإسلام الحضاري، الذي يدافع عنه العرب المتشبعون بالثقافة الغربية، أو الذين يقيمون في الغرب إقامة دائمة، لا يقل «رومانتيكية» في كثير من الأحيان عن الشرق الخلاب الساحر الغريب
Exotic
الذي يصفه كثير من الرحالة الغربيين. ففي غمرة الحماس من أجل الدفاع عن أصولهم الأولى، ومقاومة الانتماء المتأخر، فضلا عن تأخير الابتعاد الطويل عن الوطن، يلجأ هؤلاء المثقفون إلى تقديم صورة عن «شرق وهمي» لا تقل بعدا عن الواقع الفعلي عن صورة المستشرقين. فالاستشراق متهم بأنه يصور شرقا متخلفا، متحجرا، يظل جوهرا ثابتا خارجا عن التاريخ والزمان. ومعنى ذلك أن نقاد الاستشراق من العرب ينكرون أن يكون الشرق متصفا بهذه الصفات. ولكن لو قدر لهم أن يحيوا طويلا في مجتمعاتهم، ويتأملوا نوع الفكر الذي تنشره جماعات دينية أصبحت الآن تسيطر على أغلبية لا يستهان بها من شباب المجتمع العربي، لوجدوها هي ذاتها تنادي بالثبات عند نقطة واحدة من التاريخ (صدر الإسلام)، ولوجدوا أحكامها على كل مشكلة عصرية، تصدر على أساس حلول تم التوصل إليها منذ ألف وأربعمائة عام، ولوجدوا حرب 1973م تقاس حرفيا بموقعة بدر، ولوجدوا أن القول بوجود أحكام شرعية تتعلق بالإنسان (أكثر الكائنات تغيرا) وتصلح لكل زمان ومكان؛ هذا القول قد أصبح راسخا إلى حد أن أحدا لم يعد يجرؤ على تحديه. هذا هو الواقع العربي والإسلامي كما يتمثل اليوم لدى القطاعات التي تعد نفسها مدافعة أصيلة عن الإسلام، فأين منه تلك الصورة الرومانتيكية التي يتمسك بها النقاد العرب المعاصرون للاستشراق؟ (3)
بل إنني أكاد أقول بأن من وراء هذه الصورة المبالغ فيها للشرق، لدى العرب المغتربين والمستغربين، رغبة في رد الاعتبار إلى مجتمع أصلي متروك ومهجور، واتجاها لا شعوريا إلى التخلص من عقدة الذنب التي ولدها تخليهم عن هذا المجتمع. إن باحثا في وضع كهذا يتجه إلى سداد الدين للثقافة الأصلية التي تركها، عن طريق الهجوم الحاد على الثقافة الجديدة، والدفاع المتطرف، الذي يصل إلى حد فقدان الرؤية الواقعية عن ثقافة المنشأ. ويكاد المرء يلمح في تلك السمات التي يرسمون بها صور الشرق عند المستشرقين - سمات الشرق السلبي، الخاضع، المتحجر، الذي لا يريده أحد لذاته، وإن كان الجميع يطمعون فيه - آثارا للضمير المثقل بالذنب.
والنتيجة الطبيعية التي تؤدي إليها الرغبة في رد اعتبار الموطن الأصلي وتخفيف الشعور بالذنب لدى الشرقي المهاجر، هي أن يتجه إلى طمس الفوارق بينه وبين بيئته الجديدة. وأوضح تعبير عن ذلك هو ما نجده لدى إدوارد سعيد: «إن ما أدافع عنه هو أن «الشرق» ذاته كيان مصنوع
Constituted ، وأن الفكرة القائلة بوجود أماكن جغرافية لها سكان أصليون، «مختلفون» جذريا، يمكن تعريفهم على أساس عقيدة أو ثقافة أو جوهر عرقي خاص بذلك المكان الجغرافي، هي بدورها فكرة مشكوك فيها إلى حد بعيد.»
Bog aan la aqoon