Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Noocyada
هذه النزعة تتخذ شكل ميل إلى التوسيع
Expansion
وخروج العقل عن حدود ثقافته الخاصة، والتوجه إلى الآخر من أجل محاولة فهمه في العمق. وقد تتسامى هذه النزعة فتأخذ شكل كرم عقلي وسعة أفق وتواضع يسمح للمستشرق أن يمدح هذا الآخر ويجد عناصر إيجابية في عقيدته التي لا يؤمن بها، أو في نمط حياته الذي هو بالنسبة إليه تاريخي عتيق
Archaic .
وفي حالات كثيرة يتخذ هذا التوسع شكل النزعة العلمية المفرطة، التي تدقق في تفاصيل موضوعاتها بهدف الاستيعاب الكامل. ولكن هذا التدقيق التفصيلي والإفراط في استخدام المنهج المنضبط قد يؤدي أحيانا إلى تغيير صورة الموضوع الذي يتم بحثه، بحيث تختفي معالمه الأصلية وسط ذلك الحشد الهائل من المعلومات والمقارنات التي يقوم بها باحثون يعرفون عشرين لغة مثلا ما بين شرقية وغربية.
وفي أحيان كثيرة تتخذ هذه النزعة التوسعية شكل التضحية، وربما الاستشهاد العلمي، بحيث تشكل نوعا من الرهبنة (الفعلية أو المجازية) لباحث غربي يقضي حياته بين أسوار الحياة العقلية والروحية لمجتمع آخر.
ولكن ربما كان أهم الأشكال التي تتخذها النزعة التوسعية هذه، هو شكل الوصاية الأبوية
التي يمارسها باحث غربي ينتمي إلى مجتمع متقدم تجاه المجتمعات الأكثر تخلفا. قد تكون هذه الوصاية على شكل تعاطف أو توجيه وإرشاد، وقد تتخذ شكل السخرية الخفية، ولكنها في جميع الحالات تبرر الجهد الذي يبذله المستشرق في دراسة «الآخر» وتقدم إليه مكافأة معنوية يحتاج إليها مقابل تضحيته.
ومع ذلك، فمن الممكن أن تؤدي هذه المعايشة المستمرة للمجتمع الآخر - أيا كانت دوافعها الأولى - إلى تعاطف حقيقي، وإلى اندماج روحي في هذا المجتمع، واقتراب من فهم المنظور الذي يتأمل به هذا الآخر عالمه، بل وإلى انسلاخ - بدرجات متفاوتة - عن الجذور الغربية التي كانت تشكل نقطة انطلاق المستشرق.
ولعل هذه النزعة التوسعية، المصحوبة بالترف تارة وبالتعاطف تارة أخرى، والتي تمثل في كثير من الأحيان نوعا من الوصاية الأبوية، هي التي تفسر تلك الظاهرة الفريدة التي تميز مبحث الاستشراق عن فروع المعرفة الأخرى، وهي أن مساره كان يتجه نحو توسيع مجاله باطراد، واستيعاب جميع أنواع التخصصات في داخله، بقدر ما تتعلق «بالشرق»، على حين أن الاتجاه المألوف في الفروع الأخرى يسير نحو مزيد من التخصص الدقيق، وتطور الفروع الجزئية إلى علوم لها كيانها المستقل.
Bog aan la aqoon