22- من كتابه في استحقاق الإمامة
Bogga 205
فصل من صدر كتابه في استحقاق الإمامة
بعون الله تعالى نقول، وإليه نقصد، وإياه ندعو، وعلى الله قصد السبيل.
أعلم أن الشيعة رجلان: زيدي، ورافضي، وبقيتهم نزر جاء لازما لهم. وفي الإخبار عنهما غنى عمن سواهما.
قالت علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفعل كله على أربعة أقسام:
أولها القدم في الإسلام، حيث لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه.
ثم الزهد في الدنيا، فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة وآمنهم على نفيس المال، وعقائل النساء، وإراقة الدماء.
ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم، ومراشد دينهم.
Bogga 207
ثم المشي بالسيف كفاحا بالذب عن الإسلام، وتأسيس الدين، وقتل عدوه، وإحياء وليه. فليس وراء بذل المهجة واستفراغ القوة غاية يطلبها طالب، ويرتجيها راغب. ولم نجد فعلا خامسا فنذكره. فمتى رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم، وتقديمه دونهم
وذلك أنا إذا سألنا العلماء والفقهاء، وأصحاب الأخبار وحمال الآثار، عن أول الناس إسلاما، قال فريق منهم: علي. وقال فريق منهم: أبو بكر. وقال آخرون: زيد بن حارثة. وقال قوم: خباب. ولم نجد كل واحد من هذه الفرق قاطعا لعذر صاحبه، ولا ناقلا له عن مذهبه، وإن كانت الرواية في تقدم علي أكثر، واللفظ به أظهر.
وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم، والماشين إلى الأقران بسيوفهم، وجدناهم مختلفين. فمن قائل يقول: علي، ومن قائل يقول: الزبير، ومن قائل يقول: ابن عفراء، ومن قائل يقول: أبو دجانة، ومن قائل يقول: محمد بن مسلمة، ومن قائل يقول: طلحة، ومن قائل يقول: البراء بن مالك.
على أن لعلي - رضي الله عنه - من قتل الأقران والفرسان والأكفاء، ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون في طبقتهم.
Bogga 208
وإن نحن سألناهم عن الفقهاء قالوا: علي، وعمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب. على أن عليا كان أفقههم، لأنه كان يسأل ولا يسأل، ويفتي ولا يستفتي، ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم، ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم.
وإن نحن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف، والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها، قالوا: علي، وأبو الدرداء، ومعاذ، وأبو ذر، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون. على أن عليا أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل، والرضا باليسير، والتبلغ بالحقير وظلف النفس عن الفضول، ومخالفة الشهوات. وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال، ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة، ويصلي فيه ركعتين. ورقع سراويله بأدم، وقطع ما فضل من كميه عن أطراف أصابعه بالشفرة، في أمور كثيرة. مع أن زهده هو أفضل من زهدهم؛ لأنه أعلم منهم. وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره، فلا أقل من أن يعد في طبقتهم.
Bogga 209
ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر، وزيد، وخباب، مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والعناء، والذب عن الإسلام بالسيف، ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء وأهل القدم في الإسلام. ولم نجدهم ذكروا لابن عفراء، والزبير، وأبي دجانة، والبراء بن مالك، مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه. ولا ذكروا أبا بكر، وزيدا، وخبابا، في طبقة عمرو بن مسعود، وأبي بن كعب، كما ذكروا عليا في طبقتهم. ولا ذكروا أبا بكر، وزيدا، وخبابا، في طبقة معاذ، وأبي الدرداء، وأبي، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون، كما ذكروا عليا في طبقتهم.
فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، ومتفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب، وأهل هذه الطبقات، الذين هم الغايات، علمنا أنه أفضل، وأن كل واحد منهم وإن كان قد أخذ من كل خير بنصيب، فإنه لن يبلغ مبلغ من قد اجتمع له الخير وصنوفه.
فهذا دليل هذه الطبقة من الزيدية على تفضيل علي - رضوان الله عليه - وتقديمه على غيره.
وزعموا أن عليا كان أولاهم بالخلافة، إلا أنهم كانوا على غيره أقل فسادا واضطرابا، وأقل طعنا وخلافا. وذلك أن العرب وقريشا كانوا في أمره على طبقات:
فمن رجل قد قتل علي أباه أو ابنه، أو أخاه أو ابن عمه، أو حميمه أو صفيه، أو سيده أو فارسه، فهو بين مضطغن قد أصر على حقده، ينتظر الفرصة ويترقب الدائرة، قد كشف قناعه، وأبدى عداوته.
Bogga 210
ومن رجل قد زمل غيظه وأكمل ضغنه، يرى أن سترهما في نفسه، ومداراة عدوه، أبلغ في التدبير، وأقرب من الظفر، فإن ما يجزيه أدنى علة تحدث، وأول تأويل يعرض، أو فتنة تنجم؛ فهو يرصد الفرصة ويترقب الفتنة، حتى يصول صولة الأسد، ويروغ روغان الثعلب، فيشفي غليله، ويبرد ثائره.
وإذا كان العدو كذلك كان غير مأمون عليه سرف الغضب، وإن يموه له الشيطان الوثوب، ويزين له الطلب؛ لأنه قد عرف مأتاه، وكيف يختله من طريق هواه. فإذا كان القلب كذلك اشتد تحفظه ولم يقو احتراسه، وكان بعرض هلكة وعلى جناح تغرير؛ لأنه منقسم الرأي متفرق النفس، قد اعتلج على قلبه غيظ الثأر على قرب عهده بأخلاق الجاهلية، وعادة العرب من الثأر وتذكر الأحقاد والأمر القديم، وشدة التصميم.
ومن رجل غمته حداثته، وأنف أن يلي عليه أصغر منه.
ومن رجل عرف شدته في أمره، وقلة اغتفاره في دينه، وخشونة مذهبه.
Bogga 211
ومن رجل كره أن يكون الملك والنبوة يثبتان في نصاب واحد، وينبتان في مغرس واحد، لأن ذلك أقطع لأطماع قريش أن يعود الملك دولة في قبائلها، ومن قريش خاصة في بني عبد مناف، الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى، لأن الرحم كلما كانت أمس، والجوار أقرب، والصناعة أشكل، كان الحسد أشد، والغيظ أفرط. فكان أقرب الأمور إلى محبتهم إخراج الخلافة من ذلك المعدن، ترفيها عن أنفسهم من ألم الغيظ، وكمد الحسد.
فصل منها
وضرب من الناس همج هامج، ورعاع منتشر، لا نظام لهم، ولا اختيار عندهم، وأعراب أجلاف، وأشباه الأعراب، يفترقون من حيث يجتمعون، ويجتمعون من حيث يفترقون، لا تدفع صولتهم إذا هاجوا، ولا يؤمن تهيجهم إذا سكنوا. إن أخصبوا طغوا في البلاد وإن أجدبوا آثروا العناد. هم موكلون ببغض القادة، وأهل الثراء والنعمة، يتمنون له النكبة، ويشمتون بالعشيرة، ويسرون بالجولة ، ويترقبون الدائرة.
Bogga 212
فلما كان الناس عند علي وأبي بكر على الطبقات التي نزلنا، والمراتب التي رتبنا، أشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب شاغب، فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الإظهار، والتجافي عن الأمر، فاغتفر المجهول ضنا بالدين، وإيثارا للآجلة على العاجلة.
فدل ذلك على رجاجة حلمه، وقلة حرصه، وسعة صدره، وشدة زهده، وفرط سماحته، وأصالة رأيه.
وعلم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء صرف ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم. وقد علم بعد ذلك أن مسيلمة قد أطبق عليه أهل اليمامة ومن حولها من أهل البادية، وهم القوم الذين لا يصطلى بنارهم، ولا يطمع في ضعفهم وقلة عددهم، فكان الصواب ما رآه علي من الكف عن تحريك الهرج، إذ أبصر أسباب الفتن شارعة، وشواكل الفساد بادية، ولو هرج القوم هرجة وحدثت بينهم فرقة، كان حرب بوارهم أغلب من الطمع في سلامتهم.
Bogga 213
وقد كان أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وفضلاء أصحابه، يعرفون من تلك الآراء شبيها بما يعرفه علي، فعلموا أن أول أحكام الدين المبادرة إلى إقامة إمام المسلمين، لئلا يكونوا نشرا، ولئلا يجعلوا للمفسدين علة وسببا. فكان أبو بكر أصلح الناس لها بعد علي، فأصاب في قيامه، والمسلمون في إقامته، وعلي في تسويغه والرضا بولايته منعقدة منه على الإسلام وأهله. فلما قمع الله تعالى أهل الردة بسيف النقمة، وأباد النفاق، وقتل مسيلمة وأسر طلحة، ومات أصحاب الأوتار، وفنيت الضغائن، راح الحق إلى أهله، وعاد الأمر إلى صاحبه.
Bogga 214
قالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه في الفضل حتى يكلفه الله طاعته وتقديمه: إما للمصلحة والإشفاق من الفتنة كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليط في المحنة وتشديد البلوى والكلفة، كما قال الله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ". والملائكة أفضل من آدم، ولأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل، لما قدمت من العبادة واحتملت من ثقل الطاعة. وكما ملك الله طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهو نبيهم الذي أخبر الله عنه في القرآن بقوله تعالى: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا " إلى آخر الآية.
Bogga 215