أما علي فما زال يجد السير ليل نهار حتى وصل إلى يافا مع ركبه، فاستراحوا فيها يوما، واشترى من هناك ملابس شامية استبدل بها ملابسه المغربية، ثم واصلوا رحلتهم إلى غزة فالعريش فالصالحية، وكان السفر قد أجهدهم فقرر الاستراحة هناك يومين أو ثلاثة ثم يواصلون السفر إلى القاهرة.
وفيما هم في الصالحية، شاهدوا عند العصر غبارا عاليا إلى الغرب منها قد حجب الأفق وكاد يحجب الشمس، ثم ما لبثوا أن علموا بأنه غبار جيش المماليك أعوان علي بك، وقد خرج به من مصر هاربا من وجه صهره أبي الذهب، ووجهته عكا للاحتماء فيها بالشيخ ضاهر حليفه.
فقال علي لنفسه: «هذا ما كان متوقعا منذ عاد أبو الذهب من دمشق حانقا معتزما التمرد والغدر.» ثم مضى رفقاؤه فوقفوا لمشاهدة موكب الحاكم الهارب المطرود، فإذا بالموكب يضم أخلاطا من الرجال والنساء والأولاد، بين مشاة وركبان، وعلي بك في مقدمتهم على جواده، وقد ازداد وجهه عبوسا وتجهما، ولكن الذل والانكسار غالبان على هيئته، فقال علي: «هذه نهاية كل جبار عنيد، وسبحان المعز المذل!» ثم تذكر كتاب التوصية الذي يحمله إليه من الشيخ ضاهر، فرأى أن يسلمه له وإن لم يكن في ذلك ما يفيده شيئا بعد أن أصبح الأمر في مصر لأبي الذهب، فدنا من علي بك ولوح له بالكتاب، فأوقف هذا جواده وتناول الكتاب منه سائلا: «ما شأنك وماذا تريد؟»
فقال: «إني من أتباع الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، وهذا كتاب منه إلى مولاي.»
ففض علي بك الكتاب وقرأه ثم طواه وجعله في منطقته، وأشعل غليونه وأخذ ينفث الدخان من فيه في غضب يحاول كبته فلا يستطيع، ثم أخذ يسأل عليا عن أحوال الشيخ ضاهر ومدى قوة جنده وما إلى ذلك، وأخيرا قال له: «إني ذاهب إلى عكا للقاء مولاك، وستجد في القاهرة ما تريد إن شاء الله.» ثم همز جواده واستأنف الموكب سيره، فعاد علي إلى رفقائه، وأقنعهم بأن ينضموا إلى موكب علي بك عائدين معه إلى عكا، ثم واصل هو سيره إلى القاهرة للبحث هناك عما تم في أمر سيدته. •••
لبث حسن مقيما بكنيسة النبي إيليا في ضواحي بيروت منتظرا مرور قافلة ذاهبة إلى عكا ليصحبها إليها، ولكن انتظاره طال حتى مل الإقامة بتلك المنطقة، كما ضعف أمله في بقاء أبيه في عكا حتى ذلك الوقت، ولاسيما أنه لا يستطيع الظهور فيها وحاكمها الشيخ ضاهر متحالف مع علي بك في مصر، فلن يتأخر عن القبض عليه وإرساله إليه إن هو وقف على حقيقة أمره.
وكانت هواجسه تشتد كلما تصور أن أباه راجع إلى مصر ليرى ما أخره ووالدته عن اللحاق به إلى عكا، وأنه علم هناك بما أمر به علي بك من إغراقه في النيل وأخذ والدته للخدمة في قصره.
وفيما هو جالس يقطع الوقت بالتحدث مع قسيس الكنيسة، علم منه بما كان من قدوم أبي الذهب لفتح دمشق ثم رجوعه إلى مصر واستيلائه على مقاليد الحكم فيها بعد طرد علي بك منها، فكان سروره بذلك النبأ عظيما وقال: «هذه عاقبة الخيانة والظلم، ولسوف يلقى علي بك ما هو أمر وأدهى.»
فقال القسيس: «على كل حال، ما أظن أن أبا الذهب يكون أعدل حكما من علي بك.»
قال: «هذا رأيي أيضا، فأبو الذهب قد نشأ في بيت علي بك، وتلقى عليه مبادئ الظلم والاستبداد وسفك الدماء والدسائس، وبرع في كل هذا إلى أن أولاه مولاه كل ثقته وزوجه بابنته، ولكن الله - جل شأنه - يسلط بعض الظالمين على بعض، وكما دالت دولة علي بك على يد أبي الذهب، تدول دولة هذا على يد آخر قريبا بإذن الله.»
Bog aan la aqoon