ولم تكن هذه الحجرة إلا إحدى حجرات دير كنيسة مار جرجس، ورهبانه جميعا من اليونانيين. ولليونان يومئذ امتيازات كثيرة في مصر لكثرة جاليتهم فيها، ولحاجة المماليك إليهم في الطب وتجارة الرقيق وغيره، وصنع السفن وقيادتها. ولم يكن بالدير راهبات سوى راهبة جاءت من اليونان لتمضية بضعة أشهر في مصر، هي التي استقبلت سالمة ومضت بها إلى تلك الحجرة.
وبجانب هذا الدير تقوم أديار أخرى كثيرة للأقباط والأروام، ومن بينها دير أبي سرجة، ودير المعلقة، ويحيط بها جميعا سور أشبه بأسوار الحصون؛ إذ كان ذلك البناء كله حصنا فيما مضى، وفيه حاصر العرب أقباط مصر حين جاءوا لفتحها بقيادة عمرو بن العاص.
أما الجنود الذين جاءوا بسالمة، فانصرفوا عائدين أدراجهم بعد أن أوصوا بها رئيس الدير خيرا، وطلبوا إليه أن يبقيها في مأمن عنده؛ لأن حياتها مهددة بالخطر، فلم يسعه إلا القبول.
ولما وصلوا إلى الباب الخارجي وجدوه مفتوحا، والبواب ليس في مكانه هناك. فعلموا أنه فر خوفا منهم كما فعل أكثر الرهبان الذين صادفوهم داخل البناء، وأوجسوا خيفة من أن يكون أحد هؤلاء قد ظن أنهم آتون للنهب والسلب، كما كان يحدث في ذلك الحين، فذهب ليشكوهم إلى المعلم إبراهيم الجوهري أو المعلم رزق، وهما يومئذ ملجأ القاصدين وذوي الحاجات من أقباط مصر، لتوليهما الكتابة عند علي بك، وحصولهما بسبب ذلك على كثير من سعة النفوذ والسلطان، فضلا عن الثراء الوفير.
وكان أن تسلل الجنود خارجين من الباب، ثم أغلقوه وراءهم وعادوا إلى القصر دون أن يشعر أحد من أهله بشيء مما قاموا به.
الفصل السابع
الشيخ المجذوب
بقي السيد عبد الرحمن أياما في دمياط بعد وصوله إليها مع الأسطول الروسي، ثم وجد سفينة نيلية تستعد للسفر منها إلى القاهرة حاملة مقادير كبيرة من الأرز، فاتفق مع أصحابها على أن يأخذوه معهم. وفي الموعد المحدد لإقلاع السفينة كان قد صعد إليها بأمتعته، وبينها طبل صغير وعصا مصبوغة، وعدد من الأجراس الصغيرة، وصرة بها قطع مختلف ألوانها من الملابس القديمة، ثم اختار لنفسه مجلسا في أحد جوانب السفينة وقبع فيه وبجانبه أمتعته بعد أن خلع عنه الزي المغربي الذي كان متنكرا فيه، معتزما التنكر في زي آخر.
وما أقلعت السفينة حتى انطلقت بها الريح في الاتجاه المطلوب، وسر بذلك ملاحوها، فاجتمعوا على ظهرها بعمائمهم الكبيرة المرسلة أطرافها على أقفيتهم، وبسراويلهم الفضفاضة المشدودة على القدمين، وأخذ بعضهم في الغناء بمصاحبة المزمار والنقر على الدفوف. كما أخذ بعضهم يتلهون بتسلق سارية الشراع أو حمل الأثقال، بينما التجار يتلهون بمشاهدة هؤلاء وهؤلاء، أو الاستمتاع بمناظر السفن الأخرى وما يحف بالشاطئين من زروع وأشجار وفلاحين يعملون في الحرث والري وغيرهما من أعمال الحقول.
أما السيد عبد الرحمن فكان في شغل عن ذلك كله بالتفكير في أمر ولده وزوجته، فتارة تحدثه نفسه بأنهما أصيبا بعد سفره بسوء على أيدي المماليك، وتارة يخيل إليه أنهما ذهبا إلى عكا بعد مغادرته إياها. وأخيرا نهض ومضى إلى حافة السفينة فتوضأ ثم عاد إلى ركنه المختار فصلى ودعا الله أن يقيه وأسرته الضر ويجمع شملهم في أمان واطمئنان. ثم عكف على إعداد الزي الجديد الذي رأى أن يتنكر فيه بدلا من زيه المغربي، فرفع جبته بالقطع الملونة الصغيرة، وثبت فيها الأجراس الصغيرة والجلاجل، ثم ارتداها واستعاض عن العمامة بطرطور طويل بعد أن نفش شعر رأسه وأرسله على وجهه فاختلط بلحيته، وعلق الطبل الصغير على صدره. ثم نهض فغادر مكانه والعصا الملونة في يده، وأخذ يتجول في أنحاء السفينة وهو يقرع الطبل، والأجراس والجلاجل تصلصل متأثرة بحركته، فلم يبق على ظهر السفينة من لم يلفته منظره العجيب، وراحوا جميعا يتسابقون إلى التبرك به والإصغاء إلى الكلمات المبهمة التي يتمتم بها؛ إذ اعتقدوا أنه من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب!
Bog aan la aqoon