فقالت سالمة: «أليس من وسيلة إلى مقابلة الباشا واستعطافه، لكي يوصي علي بك برد ولدنا إلينا لأنه لا يستطيع الحرب؟»
فقال: «إن الباشا نفسه يشكو مثلنا ظلم المماليك، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا ... لا. ليس لنا إلا أن نشكو إلى الله.»
ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وأخذ يتضرع إلى الله قائلا: «يا رافع السموات وباسط الأرض، يا عالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء، نسألك بحق ذلنا وانكسارنا، أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير، وتنتقم لنا من الظلمة الغاشمين بجاه خاتم الأنبياء والمرسلين.» •••
لبث السيد عبد الرحمن وسالمة زوجته يبكيان ولدهما حسنا، ويشاركهما في البكاء كل من في منزلهما من الخدم والجواري حتى مضى الليل كله في ذلك دون نوم ولا طعام.
على أن السيد عبد الرحمن ما كاد يسمع أذان الفجر، حتى نهض وتوضأ وأدى ما عليه لله من فرائض للصلاة. وكان قد فاتته صلاة المغرب والعشاء بسبب ما تراكم عليه من الأحداث والأحزان.
ولما فرغ من الصلاة والدعاء إلى الله أن يكتب السلامة لولده العزيز الوحيد، جالت بخاطره فكرة رأى في تحقيقها ما قد يحقق رجاءه. فنهض ومضى إلى زوجته في غرفتها حيث كانت تواصل البكاء وقد خارت قواها واحمرت عيناها، وقال لها: «قد رأيت أن أمضي إلى السيد المحروقي في داره لأخاطبه في أمرنا، وهو من السادة الأشراف المقربين إلى علي بك، وما أظن أنه يرفض التوسط لنا عنده ليأمر بإطلاق سراح ولدنا.»
فقالت: «حسنا تفعل، وما أظن أن علي بك يرد مثل هذا الطلب لصديقه الشريف الكبير . فهيا عجل بتنفيذ هذه الفكرة، وعلى الله التوفيق.»
ثم رفعت يديها إلى السماء والدموع في عينيها ورفعت صوتها المتهدج قائلة: «يا رب، أنت أعلم بحالنا فارحمنا يا أرحم الراحمين.»
وبعد قليل، كان السيد عبد الرحمن قد استعد للخروج، فارتدى جبة وقباء (قفطانا) ووضع على رأسه العمامة، واحتذى نعلا جديدة بدل التي سلبه اللصوص إياها مع بقية ملابسه ودراهمه بالأمس. ثم هم بالنزول من دار الحريم في الطابق العلوي من المنزل، داعيا الله بقلبه ولسانه أن يوفق في مهمته.
وفيما هو كذلك إذا به يسمع ضجة كبيرة أمام المنزل، ثم طرقات عنيفة على الباب، فتسارعت دقات قلبه ووقف شعر رأسه وجحظت عيناه دهشة ورعبا، ثم خطر بباله أن الطارق ربما كان ولده أو رسوله أو بشيرا بقدومه، فعاودته همته وشهامته، وخف إلى نافذة قريبة فأطل منها على باب المنزل. وشد ما كانت خيبة آماله؛ إذ رأى جماعة من العساكر والإنكشاريين وبينهم رجال موثقون بالقيود والأغلال، فعاوده رعبه وفزعه وتخاذلت ساقاه فلم يعد يستطيع الوقوف فضلا عن المشي، فارتمى على مقعد بجانب النافذة حيث اعتمد رأسه بيديه وغرق في لجة من الوساوس والهموم.
Bog aan la aqoon