ومن ثم لا يبقى أمامنا سوى اقتراح فرض لا ينزلق إلى الاصطدام بما استقر عليه علم التاريخ في تزمينه للأحداث وللأسر الحاكمة في مصر، إنما هو فرض يرجع قليلا بزمن الخروج إلى الوراء؛ فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حدثت زمن «أمنحتب الثالث» 1405-1367 قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني؛ أي إننا بوضوح نستبعد الخروج زمن «مرنبتاح» 1229 قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلو العرش بعد سقوط «إخناتون ابن أمنحتب الثالث» الذي حكم بين 1367، 1350 قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج؛ لأن زمن مرنبتاح كان زمن قوة مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها، أما زمن خلو العرش بعد سقوط إخناتون فكان فترة ضعف تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن «أمنحتب الثالث» وربما قبله بقليل وأسسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عام يقع قبل 1350 قبل الميلاد، وبإضافة زمن التيه في سيناء وهو أربعون عاما، فإن وصول الإسرائيليين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام 1310 قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مائة وعشرين عاما إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرن من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنا هذا سيحل عددا من المشاكل الكبرى في التاريخ غير المحلولة حتى الآن؛ فسيحل أولا مشكلة وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيا سيعيد الاعتبار إلى المؤرخ المصري «مانيتون السمنودي/القرن الثالث قبل الميلاد» الذي أثبت مصداقية عالية في كثير مما أورده، ومع ذلك استبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم «أمنوفيس» لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استنادا إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه إنه هاجم قوما باسم إسرائيل ودمر بذرتهم. وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا؛ حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملة تمت بعد خروج الإسرائيليين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنها الفراعين على مستعمراتهم، بينما «أمنوفيس» الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصرى «أمنحتب» وكان إخناتون يحمل اسم «أمنحتب الرابع».
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرض يجعل الخارجين من مصر، ربما كانوا أتباعا مباشرين لأخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يفسر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك. إضافة إلى حل معضلة كأداء تقف دوما في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح وتتمثل في أن التوراة قد أكدت أن الإسرائيليين عند غزوهم فلسطين، قد دمروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل، وقد قامت بعثة حفائر بريطانية، بقيادة العالمة الأركيولوجية «ك. كينون» عام 1950م بإجراء حفائر في مدينة أريحا للكشف عن أدلة تشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دمرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكل معضلة لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ لأن أريحا تكون بذلك قد دمرت قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان، وقد اعتمدت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثرت عليه من جعلان وكسرات فخارية تحمل أسماء ملوك مصريين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وآثار التهديم الذي تعرضت له أريحا.
ونقصد من هذا كله القول: إن العودة بزمن الخروج 120 سنة إلى الخلف، إلى فترة خلو العرش بعد سقوط إخناتون، يحل معضلة آثارية كبرى ومشكلة تاريخية حقيقة، ويتطابق موعد دمار أريحا مع موعد دخول الإسرائيليين إليها، كما يحل مشكلة مستعصية تفسر وجود الفلسطينيين بفلسطين فبل دخول الإسرائيليين إليها، ولماذا حملت كنعان اسم أرض الفلسطينيين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحمل يوما اسم أرض الإسرائيليين، وهو الأمر الذي لم يزل بعد قيد البحث في كتابنا: «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة». (4) تعقيب على لقاء نتانياهو بالمثقفين المصريين
ولا أقصد هنا التعقيب على الحوار أو على كل ما قال السيد نتانياهو، لكن فقط على فقرة واحدة قالها في هذا اللقاء، وأوردها الأستاذ عبد الستار الطويلة في عدد روز اليوسف التالي للقاء مباشرة.
يقول الأستاذ عبد الستار: «وهو - أي نتانياهو - لا يعدم حجة يقلب فيها حقائق التاريخ؛ فهو يقول في براءة شديدة وهو يبرر احتلال يهوذا والسامرة، كما أصر على تسمية الضفة الغربية بشكل مستمر طوال اللقاء: نحن لسنا الأمريكيين أو الفرنسيين الذين ذهبوا لاحتلال فيتنام والجزائر، هؤلاء غرباء عن الأرض والشعوب هناك، ولا حق لهم في ذلك، أما نحن فهذه الأرض هي أرضنا، والذي حدث أننا طردنا منها ونريد استردادها.»
وكنا نظن أننا قد تجاوزنا هذا المنطق من حقبة الستينيات لكن السيد نتانياهو بالتزامه العقدي الواضح والمعلن قد أعادنا مرة أخرى إلى تلك المنطقة من التاريخ بمنطق يدعي الحقوق المؤسسة على التاريخ.
لن أكرر هنا القول المأثور: إن كان ذلك كذلك، وكان لا بد من إعادة الأراضي المسلوبة عبر التاريخ إلى أصحابها، فعلى العالم المتقدم الذي يأخذ بهذا المبدأ أن يعيد القارة الأمريكية إلى الهنود الحمر.
Bog aan la aqoon