وعلى مثل تلك الملاحظات التي يمكن لقارئ مدقق أن يراها في التوراة، تتالت التأكيدات التي ترفض نسبة التوراة إلى موسى؛ فكان تأكيد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) أن تدوين التوراة قد تم بعد موت موسى بزمن طويل. ثم تبعه الفيلسوف اليهودي باروخ اسبينوزا (1632-1677م) الذي انتهى إلى إنكار أي احتمال يمكن بموجبه نسبة التوراة إلى موسى، وقدم على ذلك شواهد عديدة، وقدم عددا من القرائن التي تشير إلى أن كتب العهد القديم بدءا من سفر التكوين وحتى سفر الملوك الثاني، قد كتبها عزرا الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الطبيب الفرنسي جاك أوستراك (1684-1766م) أول من كشف عن احتواء سفر التكوين على روايتين مختلفتين، وأوضح حقيقة وجود اسمين مختلفين للإله في ذلك السفر وفي قسم من سفر الخروج، هما «إلوهيم = الآلهة» و«يهوه». وقد ربط «أوستراك» بين ذلك وبين روايات التوراة فاكتشف أن الأجزاء التي تستخدم اسم «إلوهيم» تروي رواية مختلفة عن تلك التي تستخدم اسم «يهوه».
ويأتي الألماني جراف (1865م) ليكمل تلك الدراسات فيقوم بعملية عكس وقلب شامل للتصور التقليدي، الذي شاع عن كون القصة الإلوهيمية هي الأقدم، ليؤكد أن القصة اليهودية كانت هي الأقدم، بينما دونت القصة الإلوهيمية في فترة العودة من المنفى البابلي زمن عزرا، وذلك خلال القرن الخامس قبل الميلاد.
1
ولعل أهم ما ينفي نسبة التوراة إلى موسى، أنها لم تكن أبدا موضوعا واحدا متكاملا دفعة واحدة، يؤكد ذلك التكرار الذي يمكنك ملاحظته في قصة الخلق، مما يشير إلى اختلاف المؤلفين، بل إنك تجد في ذلك التكرار مخالفات جوهرية، ونماذج لتلك الروايات والمخالفات ما يمكن أن نورده كأمثلة وليس حصرا:
في قصة الخلق أو التكوين التي يمكن للقارئ الرجوع إلى نصها كاملا بالتوراة منعا للإطالة، يمكننا أن نقف على ذلك التناقض في فعل الخلق، الذي يقوم به مرة من سمي في الترجمة العربية «الله» وهو في الأصل العبري «يهوه». كما في القول: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1) أو كما في القول: «وقال الله ليكن ... كذا وكذا.» ومرة أخرى نجد الخالق في ذات القصة لكن في مواضع أخرى هو «إلوهيم» أو «الآلهة»، وذلك كما في قوله لأعضاء مجمعه الإلهي: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين، 1: 26).
وفي موضع من القصة يقوم الإله بخلق السماء والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، بينما في موضع آخر تكون السماء والأرض موجودتين في الأصل في هيئة غمر ماء أزلي مظلم يفتقه الله عن بعضه إلى سماء و«أرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه ... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد ... ودعا الله الجلد سماء» (تكوين، 1: 2-8).
وفي مشهد آخر من دراما التكوين، نجد الإله يقوم بإنبات النبات في الأرض ويضع فيها حيوانها ودباباتها «وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الأرض» (تكوين، 1: 11)، وفي مشهد آخر نجد برية بلا عشب يقوم الرب الإله فيها بخلق آدم، ثم يضعه فجأة في مكان يدعى جنة عدن ليزرع أرضها ويفلحها «هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد ... وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ... وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله» (تكوين، 2: 1-8).
أما أفصح الإشارات لوجود روايتين مختلفتين لقصة الخلق، فهو ما جاء عن آدم عندما وضع في الجنة، فمرة نعلم أنه لم يكن محرما عليه أكل ثمرة الخلد أساسا، بينما نفهم في موضع آخر أنه كان مخلوقا للفناء «حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى التراب تعود» (تكوين، 3: 19).
ثم تناقض آخر؛ فلدينا رواية تؤكد أن عملية الخلق قد بدأت بخلق السموات والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، وأنه بعد ذلك تقرر إنارة الكون «وقال الله ليكن نور فكان نور. ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا» (تكوين، 1: 3-5)، بينما لدينا رواية أخرى تتحدث عن السماء والأرض كموجود واحد أصلي في هيئة محيط أزلي مظلم، وترجئ تلك الرواية إيصال الإنارة إلى ما بعد فتق هذا المحيط إلى سماء وأرض «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. ودعا الله الجلد سماء ... وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل» (تكوين ، 1: 6، 8، 14).
أما أبرز الشواهد على مزج روايتين مختلفتين للتكوين، فهو الكيفية التي تم بها خلق الإنسان الأول؛ ففي مواضع من القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعة واحدة، ككائن واحد يجمع في ذاته الواحدة بين الذكورة والأنوثة «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله «ذكرا وأنثى، خلقه وباركه ودعا اسمه آدم»» (تكوين، 5: 1)، لكن في موضع آخر نجد الإله يخلق زوجين متمايزين ذكرا وأثنى «على صورة الله خلق الزوجين، ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين، 1: 27).
Bog aan la aqoon