Islam Sharikan
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Noocyada
ومما يدل على انتشار مفهوم الأمة والوطن في الوعي الجمعي أن مشروع المدارس السابق الذكر قد نص على أن «جميع المسلمين والأقباط هم أبناء الوطن»، ولذلك فتحت المدارس الأولية بجميع مستوياتها - لا سيما في المدن والمراكز - لأبناء جميع المصريين. وقد ذكر أحمد شفيق سنة 1870م (في كتابه مذكراتي في نصف قرن، القاهرة، 1934-1937م) أن الكتاتيب قبلت أبناء الأقباط، كما أن البابا كيريللوس بطريرك الأقباط - الذي أسس أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م كما سبق القول - فتح أبوابها لأبناء المسلمين (أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة، 1938م، 668)، وبتأثير من هذا الوعي الوطني بدأت السياسة التعليمية تتجاوز مهمة تخريج موظفين للدولة وتتجه للتعليم الشعبي بمعناه الواسع. والدليل على ذلك أنها بدأت - بعد التصديق على مشروع المدارس الأولية في سنة 1868م - في تأسيس مدارس البنات، وكلفت رفاعة الطهطاوي نفسه - الذي سبق أن دعا إلى تعليم البنات في كتابه مناهج الألباب المصرية - بتأليف كتاب مدرسي للأولاد والبنات (وهو كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين، 1872م، الذي احتوى على عدد من الأفكار التربوية الجديدة من أهمها الدعوة إلى التعليم المختلط لإعداد الأولاد والبنات للحياة الزوجية ...) وفتحت أول مدرسة للبنات أبوابها في سنة 1873م ثم تبعتها مدرسة أخرى في سنة 1874م. وتجلت الروح الوطنية أو الأهلية الجديدة في السياسة التعليمية في تأسيس مدرسة للصم والمكفوفين في سنة 1875م، وفي إدراك علي مبارك أن النهوض بمستوى المدارس من ناحيتي الكم والكيف لا يتوقف على الموارد والمنح المالية فحسب، وإنما يعتمد قبل كل شيء على المدرس الكفء، ولذلك أسس أول مدرسة عليا للمعلمين، وهي دار العلوم التي افتتحها في القاهرة في شهر يوليو سنة 1871م.
6
كما تجلت أيضا في إقدام عدد من الأفراد ومن الجمعيات الخيرية في القاهرة والإسكندرية سنة 1878م - بتشجيع من الخديو إسماعيل قبل انتهاء حكمه بعام واحد، وبفضل الجهود التي بذلها خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم - بتأسيس عدد كبير من المدارس الأولية أو «المكاتب الأهلية» التي أشرفت الحكومة بعد ذلك على إدارتها والارتفاع بمستوى مناهجها. وعلى الرغم من الصعاب والمشكلات المالية والقانونية والعلمية التي واجهتها المدارس الأولية الحكومية والمكاتب الأهلية (كالفشل في إدماج الكتاتيب في نظام التعليم الحديث، كما نص على ذلك قانون المدارس الأولية لسنة 1868م، وبقاء الفجوة الواسعة بينهما إلى يومنا الحاضر) على الرغم من ذلك كانت هذه النهضة في التعليم مؤشرا صادقا على بداية جديدة ووعي وطني جديد.
ولما عزل إسماعيل بسبب تدخل القوى الأوروبية وخلفه ابنه توفيق في سنة 1879م، بقيت النزعة الوطنية على حيويتها وعنفوانها في السنوات الأولى من حكمه، كما ظل التوسع في التعليم وتحسين مستواه من أهم هموم الوعي القومي. ففي شهر مايو سنة 1880م قدم ناظر المدارس علي إبراهيم لمجلس النظار مذكرة جدد فيها أهداف النهضة التعليمية بصورة واضحة، فهو يشير في بداية المذكرة إلى الفوائد التي يحصلها الإنسان من التعليم العام، ويدعو إلى نشر «جو المعرفة» بين جميع السكان والتوسع فيها حتى تصل إلى أهالي الريف، وذلك لخلق الرغبة في المعرفة والتعليم في أبنائهم، وحثهم على الشعور بحقوقهم الأهلية وواجباتهم الإنسانية نحو أنفسهم وعائلاتهم وحكومتهم، ولهذا أكد - إلى جانب أهمية التعليم العام لتدريب الموظفين - ضرورة التوسع في إنشاء المدارس الأولية في عواصم المديريات وفي المدن والقرى المهمة، وتنظيم الدراسة بها ورفع مستوى المناهج، فضلا عن إنشاء كلية جديدة للمعلمين تدرس بها العلوم واللغات الحديثة ... (وقد أسست بالفعل في شهر سبتمبر سنة 1880م، وأدمجت مع دار العلوم بحيث أصبح اسمها مدرسة المعلمين المركزية). وتألفت لجنة من الخبراء قدمت - في التاسع عشر من ديسمبر سنة 1880م - تقريرها عن الموضوع، وأضافت اقتراحات جديدة إلى الاقتراحات السابقة، منها إنشاء مدرسة للزراعة والإشراف الحكومي على المدارس الأجنبية.
واندلعت نيران الثورة العرابية ... ثم حل كابوس الاحتلال البريطاني فأوقف نهر التطور، وجمد المشروعات الطموحة لسنوات عديدة في مشرحة اللورد كرومر الذي لم يكترث بنشر «جو المعرفة» الذي استهدفه المشروع السابق.
هكذا بذلت الجهود المخلصة ووضعت المشروعات الجادة قبل الاحتلال لنشر التعليم الأهلي بكل الوسائل الممكنة. ومهما يكن من قصور هذه الوسائل وعجزها عن تحقيق الطموحات الكبيرة، فإنها تدلنا من ناحية على يقظة الوعي بحرية الوطن ووحدته، ومن ناحية أخرى على الإيمان بضرورة إصلاح التعليم وتحديثه. والواقع أن الأمرين لا ينفصلان، ويكفي لبيان ترابطهما وجود الرغبة الصادقة عند الحكام ورواد الإصلاح - الذين كان بعضهم موظفين أكفاء - في نشر التعليم بين جميع المصريين وفي المدن والقرى على السواء. صحيح أن بعض الأسئلة الملحة قد بقيت حتى اليوم بغير جواب، من ذلك مثلا:
إلى أي مدى ينبغي أن تعتمد المدارس ومعاهد التعليم على دعم المواطنين ومساندتهم بالخبرة والهبات المالية والأوقاف؟ (مع العلم بأن فكرة التربح الاستغلالي من وراء إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة لم تظهر على الإطلاق، ولم يكن من الممكن أن تظهر في ذلك الوقت الذي أشرق فيه فجر الوعي الوطني وعمرت القلوب والعقول بالقيم الحية الباقية)، ومن تلك الأسئلة أيضا: إلى أي حد ينبغي أو يمكن دمج المدارس التقليدية - الكتاتيب والمدارس الأزهرية - في نظم التعليم الحديث؟ وهل يمكن أن يشارك الآباء في دفع المصروفات أم يكون التعليم كله أو جزء منه على نفقة الدولة (كما نص على ذلك مشروع سنة 1868 بالنسبة إلى المدارس الأولية)؟ ثم إلى أي حد يمكن أو ينبغي إثارة اهتمام المواطنين بالتعليم وحماسهم لإشباع الفضول المعرفي، ومن ثم تحملهم المسئولية المشاركة في إصلاح التعليم وتحديثه؟
إن الجهود الأمينة التي بذلت للرد على الأسئلة السابقة في حدود الإمكانات الضئيلة في ذلك الحين، والمساعي التي تمت لتنمية الوعي الوطني وترسيخ البناء الاجتماعي السليم عن طريق إصلاح التعليم ونشره بين الجميع؛ كل هذا قد اصطدم بالمشكلة التي ما تزال تلقي بظلالها القاتمة، وهي مشكلة ازدواجية التعليم التقليدي والتعليم الحديث، إلى جانب تعدد الجهات الأجنبية التي تلقن الطفل والشاب المصري، بلغات غير لغته الأم، أصول العلم وفروعه وخطر ذلك على وحدة الوعي القومي وعلى الهوية القومية.
تلك بعض الأسئلة التي سيناقشها المؤرخ والمستعرب الكبير في بحثه الذي كتبه بعد البحث السابق بما يزيد على عشرين عاما عن طه حسين وديموقراطية التعليم (1990م). (16) والحق أن طه حسين ليس عميد الأدب العربي وحسب، وليس مجرد رائد جسور لثقافة الحرية والديموقراطية والاستنارة، بل له دور نظري وعملي كبير في إعادة تنظيم التعليم الابتدائي والثانوي وتحقيق أهم تحول اجتماعي عرفته مصر منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم الحاضر.
كان دستور 1923م في مادته التاسعة عشرة قد فرض التعليم الإلزامي في المدارس الأولية (أو المكاتب العامة) على أبناء المصريين جميعا من الجنسين وجعله تعليما مجانيا، ولا بد أن نذكر هنا أن النظام المدرسي في ظل الاحتلال البريطاني كان يعاني الازدواجية الحادة بين التعليم الأولي - الذي كان صورة متطورة من الكتاتيب العريقة، كما كان مجرد تعليم شعبي بلا طموح ولا مستقبل - وبين التعليم الابتدائي الذي كان يكفل للتلاميذ، مقابل مصروفات محددة، تعليما حديثا يتضمن بعض العناصر الأوروبية كاللغة الإنجليزية والعلوم، ويعدهم لمراحل تعليمية أعلى في المدارس الثانوية والمدارس والمعاهد العالية، بجانب إعدادهم للتعيين في الوظائف الحكومية. وهكذا ثبت قانون الإلزام بالتعليم تلك الازدواجية عندما حصره في التعليم الشعبي أو الأولي الضئيل القيمة، وحرم المترددين عليه من فرص التطور ومواصلة تحصيل العلم إلا في أضيق الحدود، ومع ذلك فلا بد أيضا من الاعتراف بأن نص الدستور على ذلك الإلزام كان في حد ذاته خطوة متقدمة لا يصح الاستهانة بها، وأنه جاء استجابة ليقظة الوعي الوطني المتصاعد وانتشار المثل والقيم والأفكار الديموقراطية كأشعة الشمس التي لم يكن في استطاعة واضعي الدستور أن يتجاهلوا وجودها. والحقيقة أن أعضاء اللجنة المشكلة لوضع الدستور قد أبدوا رغبتهم في أن تنص المادة التاسعة عشرة على تعميم المجانية على جميع المستويات المدرسية، ولكنهم عدلوا عن تلك الفكرة التي كان تحقيقها في حكم المستحيل.
Bog aan la aqoon