Islam Sharikan
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Noocyada
لن أستطيع الدخول في تفصيلات المناقشات التي أعقبت نشر مقال هنتنجتون، ولا أن ألخص الانتقادات التي وجهت للفرض الذي طرحه. يكفي القول في هذا السياق إن هنتنجتون يؤكد نقطة مهمة بتشديده على أهمية تحديد الهوية الذاتية في توجه البشر ومواقفهم من الحياة، وكذلك على أهمية الحضارة والدين بوصفهما عنصرين أساسيين في تحديد تلك الهوية. فلا شك في أن الناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتماد على القوى التي لا تأتي من الخارج، وإنما تنبع من داخلهم وتعبر عن شخصيتهم الأصيلة المتفردة، ويستندون فيها إلى «سند من تراثهم الخاص» كما يقول أستاذي فالتر براونه.
3
وفي تقديري أن هنتنجتون يبالغ مبالغة شديدة في حديثه عن تأثير هذين العاملين على الممارسة السياسية في العالم. فمن الصحيح - فيما يتعلق بالإسلام - أن اقتناع المسلمين جميعا بأنهم يكونون جماعة أو «أمة»، قد وحد بينهم على الدوام في الشعور بالتضامن والتكافل. ولكن من الصحيح أيضا أن العالم الإسلامي الرحب تعيش فيه شعوب وفئات اجتماعية مختلفة المشاعر والمصالح. وأغلب الظن أن هذه الشعوب والفئات المتعددة ليست على استعداد للتضحية بمصالحها الحيوية في سبيل وحدة إسلامية أعظم. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ لأن الدين الإسلامي يتيح للأفراد والجماعات مجالا واسعا وأفقا رحبا للتفسير. ولا توجد كذلك في الإسلام سلطة عليا لتقرير ما هو التفسير الصحيح، فليس فيه «بابا» ولا «دالاي لاما»، لا مجمع كنسي ولا مجلس مسكوني، والمؤمنون يتمتعون بحرية واسعة في هذا الشأن (أي في حرية التفسير) ما داموا يسعون بإخلاص وصدق للوصول إلى الحقيقة. ومن الممكن، والحال كذلك، أن يتوصل المؤمنون إلى استنتاجات مختلفة عن الموقف الصحيح من قضية معينة، كأن تكون هذه القضية هي قبول أو رفض الحضارة الغربية أو أي حضارة غيرها. وهنالك من جهة أخرى مشاعر الانتماء والتوحد في مصير مشترك، وهي مشاعر تتجاوز حدود الجماعة الدينية ولها مع ذلك تأثير قوي لا يستهان به. وأضرب لهذا مثلا واحدا من العلاقات القوية والحميمة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين العرب، وهو مثل لا يفسح له نموذج هنتنجتون عن الحضارات القائمة على الدين أي مكان فيه. لقد تحدى هنتنجتون نقاده أن يقدموا نموذجا أفضل من نموذجه. ويبدو لي أن تقسيم البشر إلى مجتمعات صناعية وأخرى غير صناعية أو في سبيلها إلى التصنيع - وهو الذي تثار حوله المناقشات تحت شعار «الصراع بين الشمال والجنوب» أو غيره من الشعارات - يمكن أن يفي بهذا الغرض.
مجمل القول أن العيب الذي يؤخذ على حجة هنتنجتون عن الحضارات هو أن هذه الحضارات ليست متجانسة بل ولا محددة تحديدا كافيا للتمييز القاطع بينها. والظاهر أن استخدام مفهوم الحضارة مع مفهوم الدين الملازم له باعتبارهما يمثلان الخط الأساسي للتفرقة بين أطراف الصراع الكبرى في عالم اليوم، الظاهر أن هذا لن يساعد كثيرا على تفهم هذه الصراعات.
وينبغي أن نذكر وجها آخر من وجوه الاعتراض على نموذج هنتنجتون. فإعطاء الدين هذا الوزن الكبير واعتباره العامل المحدد لتكوين الجماعات يمكن أن يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، خصوصا أن هنتنجتون ينظر في الأساس إلى الصراع على أنه يعني الحرب: «إن خطوط الحدود الخاطئة التي تفصل بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل،
4
والحرب العالمية القادمة، إذا قامت مثل هذه الحرب، ستكون حربا بين الحضارات.» ويبدو له (أي لهنتنجتون) بوضوح من سيكون هو العدو الأول للغرب في مثل هذا الصدام بين الحضارات. إنه في نظره هو الإسلام الذي يملك «حدودا دموية»، بل إنه يرى أن «الإسلام والصين الكونفوشيوسية» يشكلان ارتباطا عسكريا لمواجهة القوة العسكرية للغرب (راجع المقال السابق ذكره عن صدام الحضارات ص22، 34، 35، 47).
أود الآن أن أكرر رأيي في أن الحضارة والدين، وإن لم يكونا هما العاملين الوحيدين في تكوين الهوية الجماعية للبشر، فلا شك في أنهما يقومان بدور مهم في تكوين هذه الهوية. ولو سلم الرأي العام في الغرب «المسيحي» - وفقا لتصور هنتنجتون - بأن الإسلام هو عدوه الطبيعي، لما استنتج المسلمون من ذلك سوى أن عليهم ألا يتوقعوا من الغرب غير العدوان عليهم. ذلك على التحديد هو الذي يمكن أن يدفع المسلمين كافة، بصرف النظر عن الاختلافات القائمة بينهم في المشاعر والمصالح، إلى اتخاذ موقف عدائي موحد ضد الغرب، إن هنتنجتون، حتى ولو أخذ حضارات أخرى في الاعتبار، إنما يضع في الواقع إطارا نظريا لاستنفار كل من الإسلام والمسيحية تجاه الآخر. وهكذا نجده يتنبأ بنبوءة يتوقع لها أن تتحقق.
ليس من الخطر الشديد فحسب أن نعطي للدين الدور الأساسي في تحديد تكون الجماعات في نظام عالمي مهيأ للحرب. إنني مقتنع كذلك بأن هذا ببساطة خطأ فادح في التفكير. ولكي أكون أكثر تحديدا فإنني أقول إنه لا المسيحية ولا الإسلام، بحكم طبيعتيهما وماهيتيهما، يريدان الحرب. ونحن نعلم من التاريخ أن كليهما قد استغل في بعض العهود لتبرير الحرب وتعبئة جماهير المؤمنين بهما للقتال. ولكن لا ينبغي أبدا أن نعتبر أن ذلك كان هو هدفهما الحقيقي، ذلك أن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر في إطار سياق تاريخي. وقد ذكرت من قبل أن ظهور عداوة عامة من جانب الغرب تجاه الإسلام يمكن كذلك أن يدفع المسلمين من جانبهم إلى اتخاذ موقف عدواني موحد ضد الغرب. غير أن رد الفعل هذا لن يكون نابعا من نزعة عدوانية أساسية في داخل الإسلام، بل سيكون نتيجة مترتبة على مجموعة من العوامل التاريخية وعلى الأفعال وردود الأفعال من كلا الطرفين.
إن هنتنجتون يبني آراءه، بقصد أو بغير قصد، على افتراض مؤداه أن الأديان يواجه بعضها البعض بطريقة لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى كل أنواع الصراع، بما في ذلك الصراعات العنيفة. وأنا في الحقيقة أرفض هذا الافتراض رفضا تاما: صحيح أن الأديان يمكن أن تقود إلى الصراع، ولكن حدوث هذا ليس أمرا حتميا. وإذا أردنا للصراع ألا يتفجر، فينبغي أن نفكر تفكيرا هادئا في هاتين «الاستراتيجيتين»: (1)
Bog aan la aqoon