الطريق إلى الفردوس الأعلى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الوصول للفردوس الأعلى من الجنة طريق صعب، وقليل من يصله؟ رسولنا الكريم قال (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى.... الحديث) فهل لو أكثرت من الدعاء (اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى من الجنة)، هل ممكن أن أبلغها بفضل الله تعالى، حتى ولو كان عملي لا يوصلني لتلك المنزلة؟ وما هي أقرب الأعمال التي توصلنا إلى هناك بإذن الله تعالى؟ أيضا هناك حديث لرسولنا ﷺ (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة....الحديث) فهل يجوز لي أن أقول مباشرة (اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى من الجنة) بدلا من قول (اللهم إني أسألك الجنة)؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
روى الترمذي (٢٤٥٠) وحسنه عن أبي هُرَيْرَةَ ﵁ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ) . صححه الألباني في "صحيح الترمذي" وغيره.
فالجنة سلعة غالية، والفردوس الأعلى أعلى الجنان وأفضلها، ولا يصل إليها إلا من اختصهم الله بمزيد فضله.
وروى الترمذي (٣١٧٤) وصححه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: (َالْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا) وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) متفق عليه.
فإذا كانت الجنة محفوفة بالمكاره وأنواع المشاق، فكيف بأعلى درجاتها وأسمى منازلها؟
هذا يدل على أن الأمر ليس بالأمر الهين.
قال ابن القيم:
" أنزه الموجودات وأظهرها، وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا وأوسعها: عرش الرحمن ﷻ، ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلي العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه؛ ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها، لقربها من العرش، إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير " انتهى.
"الفوائد" (ص ٢٧)
وأهل الفردوس الأعلى هم السابقون المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، قال الله تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الواقعة/١٠ – ١٢
قال السعدي:
" والمقربون هم خواص الخلق " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص ٨٣٣)
قال ابن كثير:
" من سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (٧ / ٥١٧)
ثانيا:
ليعلم أن من أعظم أسباب حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب: الدعاء، فإن الدعاء هو العبادة، كما صح عن النبي ﷺ، وكما أنه عبادة محبوبة لله، فهو سبب في حصول المطلوب، ومن أراده الله به خيرا، وفقه لأسبابه، ويسر له العمل الذي يؤهله لذلك؛ كما قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) سورة الليل /٥-١٠.
روى البخاري (٢٧٩٠) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)
قال الحافظ:
" يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفِرْدَوْسَ فَوْقَ جَمِيعِ الْجِنَانِ، وَلِذَا قَالَ ﷺ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَتَعْظِيمًا لِلْهِمَّةِ -: (فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ) " انتهى.
ثالثا:
اعلم - يا عبد الله - أن نيل الدرجات في الدنيا والآخرة، ليس بالأماني ولا الأحلام، وإنما هو بسلوك أسباب ذلك، ولولا ذلك ما كان فرق بين الصادق والكاذب، وهذا من حكمة الله تعالى في تكليفه لعباده، وأمرهم بما أمرهم به.
قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) سورة النساء /١٢٣-١٢٤.
قال الشيخ ابن سعدي ﵀:
أي: ﴿لَيْسَ﴾ الأمر والنجاة والتزكية ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة، لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؛ ... فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ". "تفسير السعدي" (٢٠٥) .
رابعا:
ومن أهم الأعمال التي تبلغ المسلم الدرجات العلى، ولعلها أن تبلغه الفردوس الأعلى برحمة الله:
- الجهاد في سبيل الله:
وقد تقدم في ذلك حديث أبي هريرة ﵁.
وروى مسلم في صحيحه (١٨٨٤) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ، وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ!! قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
- الإخلاص والصدق مع الله:
روى مسلم (١٩٠٩) من حديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) .
قال النووي ﵀:
" َفِيهِ: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر " انتهى.
- الإيمان بالله والتصديق بالمرسلين:
قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) الكهف / ١٠٧
قال السعدي:
" يحتمل أن المراد بجنات الفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها: جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه " انتهى. تفسير السعدي - (٤٨٨) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) .
متفق عليه.
قال الحافظ:
" قَوْلُهُ: (وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) أَيْ حَقّ تَصْدِيقهمْ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رُسُله وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
- إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة:
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) . رواه مسلم (٢٥١) .
- الطاعات التي ورد في الأخبار الصحيحة أنها سبب في معية النبي ﷺ ومصاحبته في الجنة:
روى مسلم (٤٨٩) عن ربيعة بْن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ ﵁ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ.
وروى مسلم (٢٩٨٣) أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ) وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
وروى أيضا (٢٦٣١) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ.
وروى الإمام أحمد (١٢٠٨٩) عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ) وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
صححه الألباني في "الصحيحة" (٢٩٦)
وبالجملة: فالاجتهاد في الأعمال الصالحة، والمسارعة في الخيرات، واستدامة العمل الصالح، وصنائع المعروف، ومسابقة أهل الخير والصلاح: أصل الوصول إلى غاية المأمول في الدنيا والآخرة، ولو كانت تلك الغاية هي الفردوس الأعلى.
وينظر جواب السؤال رقم: (٢٧٠٧٥) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
1 / 352