حكم القومية العربية، وحكم الانتقاص من النبي ﷺ
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يرتد من سئل " أيهما أفضل عندك نبيك ﷺ أم لغتك؟ " فأجاب: " لغتي "!؟ وهل يرتد إن قال ذلك مازحا أو جاهلا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولًا:
لسنا ندري حقيقة المقارنة والمفاضلة بين " حسي " و" معنوي "، فكيف يقول المجيب إن " اللغة " – وهي شيء معنوي، ليس بذات – أفضل من النبي ﷺ – وهو شيء حسي، له ذات -؟ .
وعندما تأملنا وجدنا أن الأمر قد يحتمل صورتين، واحدة تتعلق بالسائل، وأخرى تتعلق بالمجيب.
أما التي تتعلق بالمجيب: فهو أنه يحتمل أن " اللغة " تعني: القومية العربية - والظاهر أنهم عرب، وأن الكلام عن اللغة العربية -، وأن النبي ﷺ يعني " الإسلام "، وهذا الاحتمال يجعل المقارنة والمفاضلة بين شيئين يمكن السؤال والإجابة عنهما.
وأما التي تتعلق بالسائل: فهو أن يكون أراد أن يستفز السائل بالإنكار عليه في تعظيم " لغته " بذِكر شيء معظَّم عند المسلمين، وهو النبي ﷺ، فسأله إن كانت لغته أعظم من النبي ﷺ.
ثانيًا:
إن كان الاحتمال الأول هو الصواب: فإن المجيب وقع في الكفر، فالقومية العربية دعوى جاهلية تحمل الكفر، وتطعن في التشريعات الإسلامية، وتفرِّق بين المسلمين، وتجمع بينهم وبين غير المسلمين على أساس اللغة العربية، فالعربي الكافر عندهم أقرب لهم وأحب من المسلم الأعجمي! وهذا كفر صريح بالإسلام وتشريعاته.
قال شاعر القومية: فخري البارودي:
بلادُ العرب أوطاني من الشام لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مصرَ فتَطوان
فلا حدٌّ يُباعدنا ولا دينٌ يُفرِّقنا
لسانُ الضاد يجمعنا بغسّانٍ وعدنانِ
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – ﵀:
ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر، أو اللغة مقدَّم على الانتساب إلى الدين، وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها تقدم القومية عليه، ما رأيكم في هذه الدعوى؟ .
فأجاب:
هذه دعوة جاهلية، لا يجوز الانتساب إليها، ولا تشجيع القائمين بها، بل يجب القضاء عليها؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها، وتفنيد شبههم ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة، وأدبًا، وخلقًا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها، وأدبها، وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات دعوة باطلة، وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية نكراء، وكيد للإسلام وأهله، وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته: " نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع ".
" فتاوى الشيخ ابن باز " (٤ / ١٧٣) .
والكتاب موجود بكامله في " فتاوى الشيخ ابن باز " (١ / ٢٨٠ – ٣١٨) .
وقال الشيخ – ﵀ – أيضًا:
إن من أعظم الظلم، وأسفه السفه، أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية، وهل للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام، وأن يقارن بينها وبينه؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام، والتنكر لمبادئه، وتعاليمه الرشيدة، وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم صناديدها وأعظم دعاتها، وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان، دعاته وأنصاره هم: محمد رسول الله ﷺ، وأبو بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة، صناديد الإسلام، وحماته الأبطال، ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها، وهؤلاء رجالها، وبين دين هذا شأنه، وهؤلاء أنصاره ودعاته، إلا مصاب في عقله، أو مقلد أعمى، أو عدو لدود للإسلام، ومن جاء به، وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل من قارن بين البعر والدر، أو بين الرسل والشياطين، ومن تأمل هذا المقام من ذوي البصائر، وسبر الحقائق والنتائج: ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام: أخطر على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا، ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من مات عليها النار، وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم، في دار الكرامة والمقام الأمين؟ .
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل، إنك على كل شيء قدير.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (١ / ٣٢٠، ٣٢١) .
وهذان جوابان نافعان من الشيخ ﵀ حول المقارنة بين القومية العربية والإسلام، وفي الجواب الثاني حكم من قارن بينهما، وفيه ذكر أنه " مصابٌ في عقله "، أو " مقلِّد أعمى "، أو " عدو لدود للإسلام ".
فمن كان يهل حال القومية: فقد يكون معذورًا، ومن جهل حال الإسلام واعتقد أن غيره من الأديان والنظم والمبادئ خير منه: فلا شك في كفره.
ثالثًا:
وإن كان الاحتمال الثاني هو الواقع: فإن السائل يكون أساء في ذِكر النبي ﷺ في المفاضلة، والمجيب قد أساء أكثر بإجابته السخيفة، والتي هي كفر في ذاتها؛ لأن فيها انتقاصًا من النبي ﷺ، وإساءة له.
والواجب على المسلم أن يعظِّم نبيه ﷺ، وأن ينصره، ويؤيده، وأن يمنعه من كل ما يؤذيه، كما يجب عليه توقيره وتكريمه، والله تعالى ذكر ذلك أنه من صفات المؤمنين، وذكره ثانيًا آمرًا به المسلمين.
قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف/من الآية ١٥٧.
وقال تعالى: (إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلًا) الفتح/ ٨، ٩.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀:
ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره فقال: (وتعزِّروه وتوقروه) الفتح/ ٩، والتعزير: اسم جامع لنصره، وتأييده، ومنعه من كل ما يؤذيه.
والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة، وطمأنينة، من الإجلال والإكرام، وأن يعامَل من التشريف، والتكريم، والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدِّ الوقار.
" الصارم المسلول " (١ / ٤٢٥) .
وليس تعظيمه وتوقيره مختصًا بحياته ﷺ، بل وبعد مماته.
قال القاضي عياض – ﵀:
واعلم أن حرمة النبي ﷺ بعد موته، وتوقيره، وتعظيمه: لازم، كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره ﷺ، وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه، وسيرته، ومعاملة آله، وعترته، وتعظيم أهل بيته، وصحابته.
" الشفا في أحوال المصطفى " (٢ / ٤٠) .
وقد نهى الله ﵎ المسلمين أن ينادوا النبي ﷺ باسمه المجرد كما يفعلونه مع بعضهم، وهذا من أوجه تعظيمه ﷺ.
قال تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/٦٣.
قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله ﷿ عن ذلك؛ إعظامًا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير.
وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه ﷺ، وأن يُبَجَّل، وأن يعظَّم، وأن يسوَّد.
وقال مقاتل بن حَيَّان: لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عبد الله، ولكن شَرّفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
وقال مالك عن زيد بن أسلم: أمرهم الله أن يشرِّفوه.
هذا قول، وهو الظاهر من السياق، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا) البقرة/١٠٤، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) الحجرات/٢-٥.
فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي ﷺ، والكلام معه، وعنده، كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته.
" تفسير ابن كثير " (٦ / ٨٨، ٨٩) .
وقد توعَّد الله تعالى مَن رفع صوته على نبيه بذهاب عمله وبطلانه.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الحجرات/٢.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – ﵀:
وهذا أدب مع رسول الله ﷺ في خطابه، أي: لا يرفع المخاطِب له صوته معه فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب، وقبول الأعمال.
" تفسير السعدي " (ص ٧٩٩) .
وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل من سبَّ الرسول ﷺ، أو عابه، أو انتقص من قدره ﷺ، سواء بالتصريح أو الإشارة.
قال القاضي عِياض – ﵀:
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع مَن سَبَّ النبي ﷺ، أو عابه، أو ألحق به نقصًا في نفسه، أو نسَبِه، أو دينه، أو خَصْلة من خصاله، أو عَرَّض به، أو شَبَّهه بشيء على طريق السبِّ له، أو الازدراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، أو العيب له: فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم السابِّ، يقتل، وكذلك يُعاقَب بالقتل مَن لعن رسول الله ﷺ، أو دعا عليه، أو تَمنَّى مَضَرَّة له، أو نسَب إليه ما لا يَليق بمَنْصِبِه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسَخَف من الكلام، وهَجْر، ومُنْكَر من القول وزور، أو عَيَّره بشيء جرى له من البلاء والمِحْنة، أو نَقَصَ من قَدْره ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.
وقد انعقد على هذا إجماع العلماء، وأئمة الفتوى، من لَدُنْ صحابة رسول الله ﷺ، وإلى يومنا، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها.
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " (٢ / ٢١٤) .
رابعًا:
الأقوال والأفعال التي تخرج صاحبها من الإسلام يستوي فيها حكم الجاد والمازح والمستهزئ. قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة:٦٥-٦٦
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀:
" وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله ﷺ جادا أو هازلا فقد كفر "
" الصارم المسلول" (١/٣٧)
فانصح – أيها السائل الكريم – هذا الرجل، وخوفه من الله ﷿، وبين له شناعة ما قال، وان دين الله تعالى ليس محلًا للجدال والخصام، أو السخرية والاستهزاء، وأعلمه ما يجب عليه من التوبة الصادقة إلى الله ﷿، والندم على ما بدر منه والاستكثار من الخيرات، عسى الله أن يهديه ويعفو عنه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
1 / 1163