قيل لك: ان في التعاون والاجتماع سرًا عجيبًا. لأنه اذا اجتمع حسنُ ثلاثة اشياء صار كخمسة، وخمسة كعشرة، وعشرة كأربعين بسر الانعكاس. اذ في كل شئ نوع من الانعكاس ودرجة من التمثيل. كما اذا جمعت بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياء كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كل صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلًا فطريًا الى ان ينضم الى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حسنًا الى حسنه. حتى ان الحجر مع حَجَريته اذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدب يميل ويُخضع رأسَه ليماسّ رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالانسان الذي لايدرك سر التعاون لهو أجمد من الحجر؛ اذ من الحجر من يتقوس لمعاونة اخيه!.
ان قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الاذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في امثال هذه الآية اختلفوا اختلافًا مشتتًا، واظهروا احتمالات مختلفة، وبينوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟
قيل لك: قد يكون الكل حقًا بالنسبة الى سامعٍ فسامعٍ؛ اذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الانسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانبًا جانبًا.. واستحسانه يتفرق وجهًا وجهًا.. ولذته تتنوع نوعًا نوعًا.. وطبيعته تتباين قسما قسما. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل اليها طبقة. وقس!..
فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الافهام المختلفة ليأخذ كلُ فهمٍ حصته. وقس!.. فإذًا يجوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها علوم العربية، وبشرط ان تستحسنها البلاغة، وبشرط ان يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.
فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه في اسلوب ينطبق على افهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.
***
1 / 49