(1) مقدمة
ليس ثمة طريقة أفضل للحكم على أهمية شيء ما وجدواه من تعطيل هذا الشيء أو غيابه، وليس الإقليم استثناء من ذلك؛ فمفهوم الإقليم، وفقا للتفسيرات المشتركة، يعزز السلم من خلال اليقين عن طريق وضع تعريف واضح للسلطة ورسم آليات عملها بوضوح؛ ففي مجال العلاقات الدولية تكون لنا «السيادة» على هذا الجانب من الحاجز، ولهم السيادة على الجانب الآخر. وفيما يتعلق بحيازة أرض أو ملكيتها، قد أزرع ذرة على هذا الجانب من السياج وقد تقوم أنت برعي قطعان الماشية على الجانب الآخر. وفي سياق الخصوصية قد أغلق بابي وألعب بدمياتي الباربي وعلى العالم بأكمله التزام البقاء بالخارج؛ ففي وجود حدود جلية، لا تتحول حالات الالتباس وسوء الفهم إلى نزاعات، ولا تتصاعد النزاعات إلى معارك. وكما نعلم جميعا، الجدران الجيدة تصنع جيرانا طيبين.
في أواخر شتاء/أوائل ربيع 2003، احتشد ما يزيد على 100 ألف جندي أمريكي وبريطاني - بعتادهم من المدافع، والطائرات، والمؤن ، ومعهم الصحفيون - على الجانب الكويتي من الحدود العراقية الكويتية استعدادا لغزو العراق، الذي أطاح بصدام حسين من السلطة وأسفر عن احتلال طويل الأمد للبلاد. إن سلطة منح أو حجب الإذن للولايات المتحدة لاستخدام الحيز الإقليمي للكويت وقطر والدول القومية الأخرى كمواقع لانطلاق الغزو؛ هي في حد ذاتها امتياز سيادي. في الواقع، كانت خطة المعركة الأصلية هي غزو العراق على نحو متزامن من جهة الشمال، إلا أنه في اللحظة الأخيرة رفض البرلمان التركي السماح باستخدام أراضيه لهذا الغرض (بوردوم وآخرون 2003)، وكذلك فعلت السعودية، ولو شكليا على الأقل. ويعد مبدأ السلامة الإقليمية - الذي يقصد به غياب الانتهاك الإقليمي - واحدا من أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وهو أيضا، كما هو معروف تماما، من المبادئ التي لا تحترم دوما. ثمة عدة طرق يمكن من خلالها أن تتعرض السلامة الإقليمية للخطر، إلا أن أكثرها وضوحا وتدميرا تلك التي تتضمن وسائل الدمار المرتبطة بالحرب الحديثة. وبصرف النظر عن المشاعر التي ربما تكون قد انتابت المرء حين بثت صور حملة «الصدمة والترويع» الأمريكية في جميع أنحاء العالم، ومهما كانت التبريرات الخطابية المنمقة التي صاحبت ذلك، فإن غزو العراق واحتلالها مثال واضح نوعا ما على عدم تطبيق مبدأ الإقليم - أو الإقليم من نوع خاص - على النحو المفترض.
ولكن ذلك الغزو، حسب ما قد يعلله البعض، كان ببساطة النتيجة التي لا مناص منها لغزو الكويت قبل 12 عاما من قبل القوات العراقية؛ ففي حرب الخليج الأولى دحرت الولايات المتحدة المعتدين، وكجزء من تسوية تلك الحرب ألزمت حكومة العراق بالسماح بدخول مفتشي الأسلحة التابعين لهيئة الأمم المتحدة، الذين كانوا مخولين بالتحقيق في وجود أسلحة دمار شامل (سيفري وسيرف 2003). كذلك فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على «العراق»؛ أي شعب العراق، وأسفرت هذه العقوبات عن وفاة عشرات الآلاف، الكثير منهم أطفال (هيرو 2001؛ الوحدة البحثية للاقتصاد السياسي 2003). كذلك فرض المنتصرون في حرب الخليج الأولى «مناطق حظر جوي» في الأجزاء الشمالية والجنوبية من البلاد، وكانوا يعمدون على نحو دوري إلى إسقاط طائرات عراقية انتهكت تلك المناطق الإقليمية المحظورة؛ ففي بداية حرب 2003 انتزع الجانب الأكبر من سيادة العراق، وكانت سلامتها الإقليمية - على أفضل تقدير - نظرية.
أسبغ صدام حسين تبريرا خطابيا منمقا على الغزو العراقي للكويت عام 1991، من خلال الإشارة إلى انتفاء الشرعية المفترض لتقسيم ولاية البصرة العثمانية من قبل البريطانيين، حين استحدثوا «العراق» و«الكويت» في مطلع القرن العشرين (دودج 2003؛ فيني 1992). ولم تكن «تلك» الحلقات من الاستحداث الإقليمي سوى عروض جانبية للجغرافيا السياسية للقوة العظمى التي واكبت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرار الإمبراطورية، والعداءات الناشئة فيما يتعلق بالتحكم في النفط في ظل نظام صناعي صار النفط بالنسبة إليه شريان حياة. قبل غزو الكويت، خاض العراق، مدعوما هذه المرة من الولايات المتحدة، حربا شرسة ضد إيران؛ إذا فغزو 2003 لم يقع عبر خط حدودي رسم على الرمال فحسب، بل في السياق التاريخي لسلسلة متوالية من عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة فيما يتعلق بالتحكم في النفط، وما يتمخض عن ذلك من ثروة وسلطة؛ فالنظر إلى الأحداث بمزيد من التعمق التاريخي، دون أن يعني ذلك تسويغها بأي حال، يخدم الغرض المتمثل في تسليط الضوء على الإقليمية باعتبارها «عملية» اجتماعية (وسياسية، واقتصادية، وثقافية) لا تتطور وتتكشف في المكان فحسب، بل عبر الزمن أيضا؛ ومن ثم فهو يمنحنا مزيدا من السهولة في رؤية الأقاليم بوصفها «نواتج» اجتماعية. وتعلم النظر عبر الإقليم له قيمته في تعلم فهم العالم: العالم ككل والعوالم التي نعيش فيها حياتنا.
من أكثر التفسيرات شيوعا للإقليم - أو على الأقل الدولة الإقليمية - أنه وسيلة لتوفير الأمن لأولئك القابعين في «الداخل» من تلك الأخطار الدائمة الموجودة ب «الخارج». والإقليم، بلا شك، غالبا ما يخدم هذا الغرض، ولكن حين يتأمل المرء تجارب مئات الآلاف من الناس الذين أزهقت أرواحهم بكل قسوة وعنف، استنادا إلى مزاعم متأصلة داخل مبدأ السلامة الإقليمية في هذا الجزء من العالم خلال الثلاثين عاما الماضية (وهو رقم يضم مئات الآلاف من الخسائر في الأرواح من جراء حرب العراق وإيران خلال الفترة من 1980 إلى 1988، والإبادة الجماعية للشعب الكردي من قبل الدولة العراقية)، ويضيف هؤلاء إلى الملايين الآخرين الذين قتلوا استنادا إلى تبريرات مماثلة؛ تصبح تلك التفسيرات الشائعة محل شك ولو جزئيا على الأقل. فإذا كان هذا هو «الأمان»، فقد يكون من المنطقي أن يتساءل المرء كيف يكون عدم الأمان. وفي القرن العشرين، وهو فترة حققت فيها الدول القومية الإقليمية هيمنة عالمية بوصفها المؤسسة السياسية الشرعية «الوحيدة»، قتل ما يزيد على 100 مليون شخص في الحروب، التي تعلق الكثير منها على نحو مباشر بالإقليم، أو منحت على الأقل تبريرا خطابيا مع الإشارة إلى الإقليم.
أو تأمل الأحداث على حدود أخرى، كتلك التي تفصل الأراضي السيادية للولايات المتحدة عن المكسيك؛ إن لهذه الحدود وهذه الأراضي تاريخا معقدا أيضا. كانت هذه الحدود قد منحت صيغة قانونية رسمية في معاهدة جوادالوبي هيدالجو عام 1848 (فريجر 1998). وقد أنهت تلك المعاهدة ما يطلق عليه الأمريكيون الحرب المكسيكية؛ ومثل الغزو العراقي للكويت، كانت هذه الحرب التي وقعت قبل 150 عاما مجرد وسيلة حاولت بها حكومة دولة قومية أن تضم إليها أراضي دولة أخرى، ودون مبرر مقنع. ولكن خلافا لمجريات هذا الغزو الذي وقع بالأمس القريب، لم تكن الدولة المعتدى عليها (المكسيك) تلقى مساعدة أو دعما من أي قوة عظمى عالمية، وكانت الدولة المعتدية (الولايات المتحدة) لها الغلبة. وتأكد مصيرها الواضح، الذي تمثل في تفوقها المفروغ منه، على أرض المعركة، وأعيد رسم خريطة السيادة؛ فتحركت الحدود آلاف الأميال جنوبا، ووجد الأشخاص والأشياء الذين كانوا «داخل» المكسيك أنفسهم «داخل» الولايات المتحدة. وكان المنضمون حديثا يتمثلون في آلاف المواطنين المكسيكيين، وكما يقول النشطاء المكسيكيون الأمريكيون: «نحن لم نعبر الحدود، الحدود هي التي عبرتنا» (أكونا 1996، 109). وضمت الحدود كذلك عشرات الشعوب الأصلية، مثل الأباتشي والهوبي ونافاجو وشعب الشوشون، الذين خضعوا رغما عنهم - وإن كان ذلك جزئيا فقط - لآليات السيادة الأمريكية؛ نظرا لموقعهم المواجه لهذه الحدود المتغيرة. كما ضمت أيضا ذهب كاليفورنيا وخشبها وعقاراتها.
فيما يتعلق بالحدود المعاصرة، يوجد ما يصفه العديد من الناس بأن «غزوا» آخر، ربما يكون أكثر خبثا، يحدث؛ فيكتب ويليام جريجز يقول: «بينما تشتبك القوات الأمريكية مع تنظيم القاعدة في خلايا إرهابية في ميادين حرب نائية في أنحاء آسيا، وتستعد قيادتنا العسكرية لمواجهات جديدة في العراق، تعتدي «صديقتنا» و«جارتنا» من الجنوب على وطننا بلا هوادة» (2002، 21)، وفي رأيه أن «الحكومة المكسيكية، والانفصاليين الراديكاليين من المكسيكيين الأمريكيين، وإدارة بوش؛ يتفقون جميعا على شيء واحد، هو أن الحدود التي تفصل دولتنا عن المكسيك ينبغي أن تعامل وكأنها ليس لها وجود» (2002، 21). ويعبر مئات الآلاف من العمال الحدود من الجنوب إلى الشمال كل أسبوع في ظل حظر رسمي لذلك، ولكن يتم تشجيع عبورهم أو التجاوز عنه بطرق أخرى. ولكن لا بد أن يفعلوا ذلك في سرية تامة، إذ يتسللون أو يعبرون أنفاقا تحت الحدود (مارتينيز 2001). وبينما ينجح آلاف في العبور، أو العثور على عمل، أو الاجتماع مع أسرهم مرة أخرى، فإن ثمة كثيرين يتم توقيفهم وترحيلهم مرة أخرى إلى الجانب الآخر ليعاودوا الكرة مرارا. والكثير من الرجال والنساء والأطفال يموتون عطشا أو من جراء التعرض للظروف القاسية في الصحاري، أو الاختناق في الشاحنات أو عربات القطارات التي تستخدم لتهريبهم إلى الداخل (إيجان 2004). بل إنه خلال الفترة 2002-2003، كان عدد العمال المكسيكيين الذين قضوا نحبهم إثر محاولتهم عبور الحدود مساويا على نحو تقريبي لعدد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا قبل إعلان الانتصار في الحرب ضد العراق (وزارة الخارجية الأمريكية). وقد أسست منظمات دينية، مثل منظمة هيومان بوردرز، برامج لترك مياه في أماكن يستطيع الزوار المؤقتون من المكسيك وأمريكا الوسطى العثور عليها (
www.humaneborders.org ). وفي الوقت نفسه، قامت منظمات مثل رانش ريسكيو بتأسيس مجموعات حراسة مسلحة تنفذ عمليات شبه مسلحة لاستطلاع الحدود، دفاعا عن الممتلكات والسيادة (
www.ranchrescue.com ). إن الحدود ليست مجرد خط على خريطة؛ فهي والأراضي التي تميزها وتفصلها بمنزلة مسائل حياة وموت.
Bog aan la aqoon