بعبارة أخرى، لا ينظر إلى الإسرائيليين باعتبارهم قد عبروا حدا ذا أهمية بينما هم في الأراضي المحتلة؛ فهم لا يزالون فعليا ب «الداخل»، ودائما ما يحيط بهم الخط الأخضر على نحو ما. ولسنا بحاجة لأن نذكر أن الفلسطينيين ممنوعون من دخول جيوب الاستيطان إلا بصفتهم عمالا. وتفيد منظمة بتسلم بأنه حتى المستوطنات القليلة السكان قد تحوي أجزاء شاسعة من الأراضي المحتلة:
تضم مناطق الاختصاص والولاية للمجالس الإقليمية مساحات شاغرة ضخمة (نحو خمسة وثلاثين بالمائة من مساحة الضفة الغربية ) لا تتصل بالمنطقة الخاصة بأي مستوطنة بعينها. وتشكل هذه المناطق احتياطيات الأرض للتوسع المستقبلي للمستوطنات، أو لإقامة مناطق صناعية. ويعرف الكثير من المناطق الكائنة داخل مناطق الاختصاص التابعة للمجالس الإقليمية في الضفة الغربية بأنه «مناطق إطلاق نار»، وتستخدم من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي للتدريبات العسكرية. ثمة مناطق أخرى تعرف الآن بوصفها «محميات طبيعية»؛ حيث يمنع أي شكل من أشكال التنمية. (2002، 70)
قد يحيط الحيز الاستيطاني فعليا ببلدات فلسطينية، لدرجة أن التوسع قد يكون محظورا فعليا؛ وهذا من شأنه أن يفاقم الازدحام الشديد بقوة. فتفيد منظمة بتسلم، على سبيل المثال، بأن: «المنطقة الحضرية من مدينة نابلس، التي تضم ثماني قرى ومخيمين للاجئين متاخمين تماما للمدينة المحاطة من جميع الجهات تقريبا بمستوطنات تعيق تنميتها وتطويرها» (2002، 95). قد تكون حدود كل مستوطنة مرسومة بحيث تشكل «كتلة» متاخمة (ص96). كذلك قد تكون الأرض الفلسطينية «محصورة» داخل المستوطنات. «البناء على هذه الجزر غير مصرح به؛ فهي قانونيا لا تزال تخص المالك الفلسطيني، الذي ليس له - على الرغم من ذلك - حرية الدخول إليها في أغلب الأحيان» (وايزمان 2002). (4-6) السياسة الجغرافية للعمودية
من بين أكثر الدراسات شمولا وتكاملا للوظائف والآثار الإقليمية للمستوطنات، تلك الدراسة التي أجراها المعماري الإسرائيلي إيال وايزمان وزملاؤه، خاصة في كتاب «سياسة العمودية» (2002) و«احتلال مدني: سياسة المعمار الإسرائيلي» (سيجال ووايزمان 2003). يصف وايزمان الوظيفة الإقليمية للمستوطنات على النحو التالي: «المستوطنات اليهودية ليست أماكن للسكنى فحسب، إنها تصنع شبكة واسعة النطاق من «التعزيز المدني»، الذي يعد جزءا من خطة الجيش الإقليمية للدفاع؛ ما يولد رقابة إقليمية تكتيكية. ووجود شكل بسيط للحياة العائلية، كمنزل لأسرة واحدة متوار داخل واجهة جمالية من القرميد الأحمر والمروج الخضراء؛ يتماشى مع أهداف السيطرة الإقليمية» (2002). وينعكس مشروع السيطرة الإقليمية في التصميم الطبيعي للمستوطنات حيث:
يشيد شكل المستوطنات الجبلية وفقا لنظام هندسي يوحد تأثير المشهد مع النظام المكاني؛ ما يسفر عن «حصون شاملة الرؤية»؛ ما يولد بدوره إطلالات تؤدي إلى أهداف عديدة مختلفة: السيطرة (في الإطلال على القرى والبلدات العربية)، والاستراتيجية (في الإطلال على العديد من الطرق المرورية الرئيسية)، والدفاع عن النفس (في الإطلال على البيئة المباشرة وطرق الولوج لمختلف الجهات). يمكن رؤية المستوطنات كأدوات بصرية حضرية للمراقبة وممارسة السلطة. (2002)
والمشروع الإقليمي، على مستوى أدق من التحليل، يكيف الهندسة الداخلية للمستوطنات؛ فيسري مبدأ «الحصون الشاملة الرؤية» بأقصى قدر من السهولة على الدائرة الخارجية من البيوت. أما الدائرة الداخلية، فتقع في مواجهة الفراغات التي بين بيوت الدائرة الأولى. وهذا الترتيب للبيوت حول القمم، بإطلالتها نحو الخارج، يفرض على السكان رؤية محورية (وتعذر الرؤية الجانبية)، موجهة في اتجاهين: «إلى الداخل وإلى الخارج» (2002). والواقع أن المشروع يتجلى حتى في التصميم الداخلي للمنازل؛ فيكتب وايزمان أن التوجيهات المعمارية بشأن التصميم توصي بأن يتم:
توجيه غرف النوم جهة المنشآت العامة الداخلية، وتوجيه غرف المعيشة نحو المشهد البعيد؛ فالإطلالة الموجهة إلى الداخل تحمي عورات المستوطنات، أما الإطلالة الموجهة إلى الخارج فتعرض المنظر بالأسفل . لقد أملت الرؤية نظام التصميم وأسلوبه على كل مستوى، وصولا حتى إلى الوضع الصحيح للنوافذ. (2002)
وأخيرا تدمج أجساد المستوطنين أنفسهم داخل منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية. «سواء عن معرفة سابقة أم لا، فإن أعين المستوطنين، التي تبحث عن مشهد مختلف تماما «تختطف» لأهداف استراتيجية وجيوسياسية» للدولة الإسرائيلية (2002). وهذا التكوين الإقليمي المفصل والمعقد على نحو مذهل يتجاوز حدود نموذج التصنيف والتواصل وفرض السيطرة؛ فالتجمع الاستيطاني يشكل ما سماه وايزمان سياسة العمودية.
ثمة عنصر تكاملي لمنظومة السيطرة الإقليمية هو شبكة «الطرق الفرعية»، وهذه الطرق عبارة عن طرق موصلة محدودة (يحظر على الفلسطينيين استخدامها) تربط المستوطنات بإسرائيل وكلا منها بالأخرى. وتمتد لإجمالي طول يزيد على 340 كيلومترا، وترتب عليها مصادرة آلاف الأفدنة من الأرض في الأراضي المحتلة. وقد نتج عن ذلك تدمير مئات البيوت الفلسطينية وحدائق الزيتون والأراضي الزراعية الأخرى ذات الإنتاجية (ميان 1996). ويقرأ وايزمان الطبوغرافيا السياسية الناشئة على هذا النحو:
تسعى الطرق الفرعية إلى فصل شبكات المرور الإسرائيلية عن الشبكات الفلسطينية، ويفضل أن يتم ذلك دون السماح لها بالتقاطع معا أبدا. وهي تؤكد على تشابك الجغرافيتين المنفصلتين اللتين تسكنان المشهد نفسه. وفي النقاط التي تتقاطع فيها الشبكتان، يقام فصل بديل مؤقت. وفي أغلب الأحيان، تحفر طرق ترابية صغيرة للسماح للفلسطينيين بالمرور أسفل الطرق السريعة الواسعة التي تندفع عليها الشاحنات والمركبات العسكرية الإسرائيلية بين المستوطنات. يكتب ميرون بنفينستي قائلا: «والواقع أن الشخص الذي يتنقل على أكبر جسر في البلاد، ويخترق الأرض في أكبر نفق، قد تجاهل حقيقة أن ثمة بلدة فلسطينية كاملة توجد فوق رأسه، وأنه وهو في طريقه لا يصادف أي عربي، عدا بعض السائقين الذين يتجرءون ويسيرون على الطريق اليهودي». (2002)
Bog aan la aqoon