في هذا الاستكشاف الموجز والشديد الانتقائية لأساليب الخطاب التخصصية للإقليم والإقليمية، رأينا كيف أن الإقليم متضمن في مجموعة كبيرة من العلاقات الاجتماعية، من الشخصية إلى الدولية، وكيف تتغلغل أشكال وصيغ مختلفة من السلطة والنفوذ في تشكيل الأقاليم والحفاظ عليها. وتوضح هذه الرؤى، عندما تؤخذ معا ككل، مدى تعقيد وأهمية الإقليم، أو على الأقل ما «يطلق عليه» العديد من المراقبين الأكاديميين إقليما. ولكن في الواقع نادرا ما «تؤخذ معا ككل»؛ فكل خطاب تخصصي يميل إلى تشريح الإقليم «في ذاته» وإخضاعه لمحاور الاهتمام الأساسية التي تميز التخصصات أحدها عن الآخر (ثمة استثناء مهم لهذا؛ هو عمل روبرت ساك، الذي سوف يتم تناول كتابه «الإقليمية البشرية» تفصيلا في الفصل الثالث). وحين تؤخذ معا ككل، قد يعجب المرء أكثر ما يعجب بما هو مفقود، ألا وهو: كيفية تآزرها وتضافرها معا إن كانت كذلك من الأساس. إن ما نراه هو الأقلمة المتخصصة للإقليم التي تتعامل مع الدول، والمدن، والجماعات العرقية، والمجتمعات، والعصابات، والأسر، والأفراد؛ وكأن كل واحد منها يعيش في عالمه المنفصل الذي لا يمكن فحصه ودراسته إلا بمعزل عن بقية العالم. وربما تكون الاختلافات على أقوى ما تكون في المجالات المتطرفة. لقد استهللنا دراستنا بالعلاقات الدولية، التي تتخيل الأقاليم السياسية بلا أشخاص، وأنهيناها بعلم النفس البيئي الذي يتخيل الأقاليم الشخصية بلا سياسة. وعلى طول الطريق، شاهدنا كيف تحول الإطار العملي للإقليم من الأشكال الراسخة والرسمية والصارمة والعنيفة، إلى أشكال أكثر انسيابية وغير رسمية وزائلة بل متنقلة أيضا. ربما يكون من الممكن فهم الخطابات التخصصية بوصفها تقوم بتشريح العالم وفقا لمقياس بعينه، وفهم مسارنا بوصفه قد اتبع طريقا من الكلي إلى الجزئي. ولكن مرة أخرى، تم التغاضي عن السؤال بشأن ما إذا كانت هذه المقاييس معبرة والكيفية التي تعبر بها. والإقليم في حد ذاته «متضمن» من قبل المقياس، والمقياس يحدد للتخصصات المعرفية الموضع الملائم لها في المنظومات الحديثة لإنتاج المعرفة.
غير أن هذه الدراسة قد تكشف أيضا عن قواسم مشتركة مهمة بين العديد من الرؤى المختلفة، وهذه القواسم المشتركة أصبحت موضع قدر كبير من النقد مؤخرا. ومن بين القواسم المشتركة الميل نحو رؤية الإقليم في إطار متضادات «إما/أو»، و«الداخل/الخارج» الثنائية الحادة نوعا ما، مع «دواخل» موحدة ومتجانسة نوعا ما وحدود واضحة نسبيا. وفي كل واحد منها أيضا يوجد ثبات واضح؛ حيث تتميز الاختلافات والعلاقات «الأفقية» على ما سميته في الفصل الأول الاختلافات والعلاقات «العمودية». وتشدد التخصصات المعرفية على الإقليم فيما يتعلق مثلا بعلاقات الدولة/الدولة، أو المجموعة/المجموعة، أو النفس/النفس، وليس فيما يتعلق بعلاقات أكثر تعقيدا وتباينا؛ بمعنى أن هناك نزعة قوية لقراءة الإقليم كشيء مميز وسط أطر التشابه التخصصية. يوجد أيضا ثمة انحياز نحو التركيز على هذا الإقليم أو ذاك أو الحد على نحو مستقل، على حساب تحليل مجموعات إقليمية أكثر تعقيدا. علاوة على ذلك، يوجد الإطار الذي تكون فيه كل نقطة من النقاط المبالغ فيها من دراستنا مجرد نسخة من الأخرى؛ فمجال العلاقات الدولية ينظر إلى الدولة كنوع من الذات الفردية الموحدة على نطاق كبير، بينما يرى علم النفس الذات كنوع من الدولة السيادية على نطاق صغير. وبالنسبة إلى كل منهما، ترتبط الإقليمية ارتباطا محكما بأفكار حرية الإرادة، ويصاغ تصورها في إطار الخوف، والخطر، والأمن، والتعدي، والسيطرة، والدفاع، والعنف، وفقدان النزاهة. (3) لاأقلمة المجالات المعرفية
في الثلث الأخير من القرن العشرين بدأ علماء من مجالات «أساسية» متنوعة يسعون على نحو متزايد لاستكشاف وسائل للهرب من إقليمية الإقليم، من خلال مجموعة من المشروعات التي تجمع بين تخصصات متعددة. واعتمادا على مجموعة واسعة النطاق من الموارد النظرية؛ مثل: حركة ما بعد البنائية، وما بعد الحداثة، والاقتصاد السياسي، والحركة النسائية، بدأ هؤلاء الكتاب في إبداء انعكاسية أكثر صراحة فيما يتعلق بإنتاج المعرفة، والطرق التي تتبعها الرؤى التخصصية الثابتة من أجل كل من تركيز الانتباه على بعض جوانب الإقليمية وتحجيم نطاق البحث والاستقصاء. كذلك كان يوجد وعي متزايد بالعلاقة بين المعرفة (تمثيلات الإقليم) والسلطة. وفي ظل ازدياد التشكك بشأن بعض المزاعم - على الأقل - التي قدمت باسم الحداثة، إن لم يكن بشأن فكرة الحداثة في جوهرها؛ أبدى بعض هذه المشروعات أيضا حساسية متصاعدة لتأثيرات المفاهيم التقليدية للإقليم. والحق أن موضوع الإقليم قد انخرط فيه كليا الكثير والكثير من العلماء والباحثين من العديد من المشروعات المتعددة التخصصات، لدرجة أن العصر الحالي يمكن، ببعض التبرير، اعتباره عصرا ذهبيا لنظرية الإقليمية. ويعد هذا، في جزء منه، نتاجا للتغير الجيلي وتكثيف التداخل بين المجالات والتخصصات عبر العلوم الاجتماعية. وفي جزء آخر، يعد نتاجا لتغيرات ملموسة في العالم تثبت على نحو متزايد عدم كفاية طرق الفهم التقليدية. ومن الصحيح أيضا أن هذه المناهج الأحدث تميل أيضا لأن تكون ناقدة؛ فهي ناقدة لأساليب الخطاب التخصصية الموروثة، وناقدة للطرق التي تمارس وتختبر بها السلطة فعليا في مقابل الإقليمية، وناقدة لتورط الأولى في آليات الأخيرة. ونتاج كل هذا الاضطراب هو ظهور طرق جديدة لفهم الإقليم قلبت المفاهيم التقليدية ظهرا لبطن.
في هذا الجزء من الدراسة سوف نبحث بعضا من المشروعات المهمة المتداخلة الاختصاصات، بطريقة تقتفي مسار أساليب الخطاب التخصصية التي استعرضناها في الأجزاء السابقة. سوف أناقش أولا مناهج ما بعد البنائية لمعالجة العلاقات الدولية وظهور السياسة الجغرافية النقدية في الجغرافيا البشرية، وبعد ذلك سوف أتطرق إلى بعض القضايا الأساسية في الجغرافيا الجذرية والنقدية على نحو أعم؛ نظرا لارتباط هذه القضايا بالتفسيرات وطرق الفهم المتغيرة للإقليم. وسوف يتبع هذا استكشاف موجز لدور نظرية الثقافة، وعلى نحو أكثر تحديدا، نظرية الحدود في عمليات إعادة التنظير الأخيرة. وسوف يختتم هذا الجزء بمناقشة موجزة لما قد يكون الموضوع الأشد جدلا في المناقشات الحالية بشأن الإقليم: العولمة وآثارها المزعومة النازعة للأقلمة. (3-1) العلاقات الدولية الأحدث
لم يكن مجال العلاقات الدولية محصنا ضد التغيرات النظرية والعملية للعصر؛ فقد حاول العديد من الممارسين - متأثرين بالنظريات والطرق الاجتماعية التي لم تكن تشكل جوهر المعرفة العلمية لمجال العلاقات الدولية من قبل - الخروج من الصندوق المحدد ببنود «المناظرة الكبرى» بين الواقعيين والمثاليين. وكخطوة أولى أخضعوا بنود المناظرة لتحليل ونقد مستمرين، وأفضى هذا إلى فحص نقدي للأفكار الأساسية الخاصة ب «السيادة»، و«الفوضى»، و«العنصر الدولي»؛ إذ إن هذه الأفكار منتشرة في خطاب العلاقات الدولية التقليدي. ونظرا لأن هذه المفاهيم جميعا قد تم توضيحها من خلال مفاهيم الإقليمية التي لم تخضع لأي فحص أو دراسة، فليس غريبا أن تكون هذه الاستكشافات النقدية قد أسفرت عن ابتكار عمليات إعادة التصور الجديدة والمثمرة للإقليم وعلاقته بالسلطة والمعنى والخبرة. سوف أتطرق هنا لثلاثة خطوط للنقد: التأريخ، والاستطراد، والتحول في التركيز من الأقاليم كحاويات ثابتة إلى الحدود التي تحددها وقابلية تحرك الأشخاص الذين يعبرون هذه الحدود.
ولما كان خطاب إدارة الدولة في العلاقات الدولية والسياسة الجغرافية يفترض أن الدولة الإقليمية بمثابة تطويع مكاني أولي شبه طبيعي للسلطة، تكون إحدى المهام الأساسية لنظرية العلاقات الدولية النقدية هي تأكيد تاريخية هذا التكوين. وهذا لا يعني مجرد تتبع ظهور و«نشوء» الدولة الإقليمية وانتشارها عالميا، ولا يعني أيضا أن الاستقصاء مقتصر على دراسة التشكيلات المتغيرة داخل إطار دائم وقوي، كما في الجغرافيا السياسية التقليدية، بل يعني أن نظرية العلاقات الدولية النقدية تشدد على «الاحتمالية» التاريخية والثقافية والسياسية للإطار ذاته، بمعنى أنه يرمي إلى نزع السمات الطبيعية، ومن ثم إعادة تسييس واحدة من أكثر العلاقات الحديثة جوهرية بين السلطة والإقليم. ويكتب آر جيه بي ووكر، أحد الرواد في هذا المسعى، قائلا:
ظهر المبدأ الحديث لسيادة الدولة تاريخيا باعتباره الصيغة القانونية لطبيعة وشرعية الدولة ... وعلى أبسط المستويات، يعبر عن ادعاء الدول الحق في ممارسة سلطة شرعية داخل حدود إقليمية محددة تحديدا صارما. وهذا الزعم الآن يبدو طبيعيا وبارعا ... فالمزاعم بشأن سيادة الدولة توحي بالبقاء والاستمرار؛ حيز إقليمي غير متغير نسبيا ستشغله دولة تتسم بتغير زمني، أو وعاء مكاني ومؤسسي سوف تشغله تطلعات ثقافية أو عرقية لشعب ما. الحكومات والأنظمة قد تأتي وتذهب، ولكن الدول ذات السيادة تستمر للأبد. (1993، 165-166)
على النقيض من هذا يروي ووكر قصة من نوع مختلف، فيروي لنا أنه «ذات يوم»:
لم يكن العالم كما هو الآن؛ فأنماط الدمج والإقصاء التي نعتمدها الآن كمسلمات هي ابتكارات تاريخية، ومبدأ سيادة الدولة هو التعبير الكلاسيكي لتلك الأنماط؛ تعبير يشجعنا على الإيمان بأن تلك الأنماط إما دائمة (الواقعية) وإما أنه لا بد من محوها لصالح مدينة عالمية من نوع ما (المثالية). وإرساؤه للوحدة والتنوع، أو الداخل والخارج، أو المكان والزمان؛ غير طبيعي ولا حتمي، إنه جزء بالغ الأهمية من ممارسات جميع الدول الحديثة، ولكن تلك الممارسات ليست طبيعية أو حتمية هي الأخرى. (1993، 179)
إذا كانت أقلمة السلطة السياسية توصف في إطار الاحتمالية أكثر من الضرورة، فإن خطوطا جديدة من الاستقصاء والبحث تتفتح قد تتيح للمرء مزيدا من الفهم والاستيعاب للإقليمية.
Bog aan la aqoon