Introduction to Quranic Interpretation and Sciences
مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه
Daabacaha
دار القلم / دار الشاميه
Lambarka Daabacaadda
الثانية
Sanadka Daabacaadda
١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م
Goobta Daabacaadda
دمشق / بيروت
Noocyada
المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا؛ أحمده تعالى حق حمده، وأستعينه وأستهدي به وأستغفره وأتوب إليه. وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وخيرته من خلقه، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، ونهض إلى تحكيم شريعته .. إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن هذه الأبواب والفصول التي حملت هذا العنوان (مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه) تأتي تلبية لحاجة طلبة الجامعة الذين يتأهبون لدراسة تفسير القرآن، والدخول إلى رحابه وآفاقه، ورحاب سائر أنواع علوم القرآن وتلبيته كذلك لحاجة ز ملائهم الذين لا بد أن يشدو طرفا من العلم بكتاب ربهم قبل أن ينصرفوا إلى التخصص الجامعي في حقل من حقول الدراسات الإنسانية والاجماعية. ويلحق بهؤلاء الطلبة وينضاف إليهم سائر الدارسين والباحثين الذين لا غنى لهم عن الإلمام بشيء من تاريخ القرآن الكريم، والوقوف على طرف من آفاقه ومعانيه وأسرار إعجازه!
ولهذا، فقد دارت- هذه الفصول والأبواب- حول محورين: الأول:
تاريخ القرآن الكريم، أو ما أسميناه- هنا وفي كتب لنا سابقة- قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه؛ تأكيدا على هذه التسمية، وترجيحا على سابقتها الذي ما يزال في النفس منها شيء! نظرا لكونها تسمية مطلقة- أو مفتوحة! - هكذا:
1 / 5
تاريخ القرآن! فهذا الإطلاق موهم أو ليس بدقيق على أقل تقدير.
والمحور الثاني: إعجاز القرآن ومعالم التفسير المعاصر؛ بوصف هذه المعالم هي التي سيتم معها التعامل، أو هي المطلوبة في هذه المرحلة من مراحل الدراسة، من جهة، ومراحل تفسير القرآن وفهمه و«العقل» عنه، من جهة أخرى.
وجاء الحديث في هذين المحورين تقديرا منّا بأن (المدخل) يؤدي مهمته وينهض بأداء وظيفته حين يشتمل على (تاريخ) العلم- أي علم- وحين يتضمن في الوقت نفسه مقدمات تعين الدارس على فهم هذا العلم، أو التعامل معه على نحو أفضل. وأرجو أن يكون المحوران السابقان قد أدّيا هذه المهمة؛ بحيث يتمكن دارس هذا الكتاب من التعامل مع كتب التفسير وعلوم القرآن على النحو المذكور، وبحيث يهيئ له عند تلاوته للقرآن الكريم، والتأمل في آياته، الفرصة لفهم بعض جوانبه، وتذوق بعض نقاط إعجازه وبلاغته التي تبهر العقول، وتأخذ بالألباب.
هذا، وقد أضفت إلى هذين المحورين حديثا موجزا- لا بد منه- عن القرآن الكريم واللغة العربية، أشرت فيه إلى طرف من خصائص اللسان العربي، والسبب الذي من أجله نزل القرآن في العرب وبلغتهم، وبعث النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه من بين ظهرانيهم. بالإضافة إلى الحديث عن أثر القرآن- في المقابل- في اللغة العربية، وما منحها من السمو والتشريف، وكتب لها من الثبات والخلود. وغني عن البيان أن تفسير القرآن الكريم وفهم إعجازه مؤسس على هذه اللغة الإنسانية ومنطلق منها.
وأشير أخيرا إلى أن فصول هذا الكتاب- وقد نشر معظمها في وقت سابق- لم تخل من إضافة- حسنة إن شاء الله- أو من تجديد وإعادة صياغة مرة أخرى.
وآمل أن أتابع، بعون الله تعالى وتوفيقه، كتابة جزء أو مؤلّف آخر يتضمن سائر علوم القرآن، وبشيء من التوسع والتعمق إن شاء الله تعالى.
1 / 6
أدعو الله تعالى أن ينفع بهذا العمل، وأن يكتب له القبول، وأن يمنّ عليّ بالمثوبة العفو والعافية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠).
الدّكتور عدنان محمّد زرزور أستاذ ورئيس قسم التفسير والحديث بجامعة قطر
الجمعة: ٢٥ من المحرم الحرام ١٤١٦ ٢٣ حزيران «يونيو» ١٩٩٥
1 / 7
الباب الأوّل القرآن الكريم واللغة العربية
* الفصل الأول: لغة القرآن الكريم.
* الفصل الثاني: أثر القرآن الكريم في اللغة العربية.
* الفصل الثالث: أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية.
1 / 9
الفصل الأول لغة القرآن الكريم
أولا- اللسان العربي:
إن اختيار لغة العرب لينزل بها آخر كتب الله تعالى للإنسان، على تعدد لغات البشر واختلاف ألسنتهم، يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان، وبخاصة إذا ذكرنا أن إعجاز القرآن أو معجزة النبيّ الكبرى- صلوات الله وسلامه عليه- جاءت متعلقة بهذا البيان ومتصلة به، بل كانت في حقيقة الأمر من جنسه، لأن الإعجاز الذي جاء في القرآن الكريم مقرونا بالتحدي أو ثمرة له- كما سنشرح ذلك في مبحث الإعجاز القادم- كان بيانيا صرفا، على الراجح من أقوال العلماء
والباحثين.
ومما يدل على هذه الفضيلة البيانية، أو الميزة البيانية، ويشير إليها على أقل تقدير أن من استقام لسانه بالعربية- كما هو ملاحظ ومشاهد- استقام بكل لغة أو لسان آخر، ولا عكس. أي أن من نشأ على العربية ورضع لبانها، وتفتق لسانه بحروفها وكلماتها وتراكيبها ... بمعنى أن هذه الحروف والكلمات والتراكيب كانت هي السابقة إلى لسانه وشفتيه نشأة وتعليما؛ فإن في وسعه أن يتقن في المستقبل ... في سن الحداثة والصبا، أو في سنّ المراهقة والبلوغ ... وربما بعد ذلك أيضا، أي لغة أخرى، وسوف يبلغ بهذه اللغة- مع إجادة التعليم والتعلّم- مبلغ أهلها من حيث الإبانة والنطق؛ بحيث يصعب فصله عنهم أو تمييزه بينهم من
1 / 11
خلال الحديث والكلام. ولكن العكس غير صحيح في سائر الألسنة واللغات، ولسوف يبقى في لسان من نشأ على غير العربية، بقيّة من لكنة تحول بينه وبين إجادة نطق جميع حروف العربية وكلماتها وعبارتها ... أو بين نطقها على نحو تام، أو سليم.
ويعود السبب في ذلك، على الأرجح، إلى الاستخدام الأمثل للمدرج الصوتي أو لجهاز النطق الإنساني في لغة العرب، والذي توزعت عليه حروف هذه اللغة على أتم صور التوزيع وأشملها وأدقها إذا ما قيست هذه الحروف بسائر اللغات، أو بحروف هذه اللغات وأبجدياتها! يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في معرض حديثه عن اللغة العربية بوصفها لغة شاعرة- أي لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية- وبيان أن هذه «الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها، على حدة، إلى تركيب مفرداتها، على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد» يقول- ﵀: «إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية، لأنها انتفعت بجميع مخارجها الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة، والتثقيل تارة، كما فعل المتكلّمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والساميّة والطورانية» (١).
ويقول العقاد: إن حروف الهجاء أو الأبجدية العربية ليست أوفر عددا من الأبجديات في هذه اللغات جميعها- أي اللغات الهندية الجرمانية، واللغات الطورانية، واللغات السامية- «فإن اللغة الروسية- مثلا- تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها. ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية، لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة
_________
(١) اللغة الشاعرة للعقاد، ص ١١، المكتبة العصرية، بيروت.
1 / 12
إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان ... وبمثل هذا الاختلاف في الضغط، أو الاختلاف في الحركة، يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين أو ستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده» (١).
«وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد!
وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانا ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة».
وقد جاء في عرض كلام العقاد، وهو يتحدث عن شاعرية هذه اللغة من هذا الجانب وحده- جانب الأبجدية أو تقسيم الحروف- وصفها بأنها لغة إنسانية ناطقة! نظرا لهذا الاستخدام الأمثل لجهاز النطق في الإنسان، فلا توجد في العربية أداة صوتية ناقصة تحسّ بها أبجدية هذه اللغة! «إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه. وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل» (٢).
_________
(١) اللغة الشاعرة، ص ٩.
(٢) المصدر السابق، ص ١٠.
1 / 13
ولا يتّسع المجال هنا لتلخيص كل ما قاله الأستاذ العقاد فيما يمكن تسميته بعبقرية الحرف العربي أو دلالة الحروف على السليقة الشاعرة في اللغة العربية ...
فضلا عما قدمه- ﵀ بعد ذلك في باب: المفردات، والإعراب، والعروض، وأوزان الشعر، والمجاز، وما أسماه: الفصاحة العلمية ... إلخ.
ويكفي أنه قال في (الكلمات) إن ظهور السليقة الشاعرة فيها كظهورها في (الحروف) المتفرقة أو أظهر «لأنها تضيف الموسيقية في القواعد، والموسيقية في المعاني، إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين» ... «وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أنّ الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفّق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها. فالفرق بين: ينظر، وناظر، ومنظور، ونظير، ونظائر، ونظارة، ومناظرة، ومنظار، ومنظر،
ومنتظر، وما يتفرع عليها، هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع. وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء».
«وعلى غير هذا النسق تجري أوزان الكلمات في اللغات الأخرى، وأولها لغات النحت على التخصيص، فإن الكلمات فيها قد تجري على وزن واحد بغير دلالة على اتفاق في المعنى، ولا في تقسيم الأسماء، والأفعال والحروف، ولولا هذه المشابهة العرضيّة بين بعض كلماتها لكان فيها من الأوزان عداد ما فيها من الكلمات!» (١).
_________
(١) اللغة الشاعرة، ص ١٢. ويضيف العقاد: «إن كلمات: آن وبان وتان وثان وجان وذان وران وفان ومان» توجد في اللغة الإنجليزية اتفاقا ومنها الحروف والأفعال والأسماء،-
1 / 14
وتكفينا هذه الإشارات القليلة لإدراك طرف من أسباب وصف اللسان العربي- في القرآن الكريم- بأنه (مبين) وأسباب مقابلته في الوقت نفسه باللسان الأعجمي، الذي ينطبق على سائر الألسنة الأخرى؛ قال تعالى في سورة النحل:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) [الآية ١٠٣].
وقال في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) [الآيات ١٩٢ - ١٩٥].
كما تكفينا هذه الإشارات لمعرفة السبب الذي نزل القرآن الكريم من أجله بلغة العرب؛ فاللسان العربي المبين أو بوصفه لسانا مبينا، هو أوفر الألسنة التي وزّعها الله تعالى على الشعوب والأقوام حظا لينزل به كتاب الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه جميعا؛ قال تعالى في سورة الأحقاف: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) [الآية ١٢].
واللغة الشاعرة بحروفها ومفرداتها وإعرابها ... إلخ هي أوفر لغات الأرض حظا لينزل بها هذا الكتاب الخالد ... والذي أراد الله سبحانه أن يفوق- بإعجازه وشاعرية لغته- الشعر في وجازته وتأثيره، ولحنه وموسيقاه! فالتعبير القرآني كما هو معلوم ليس فيه قافية الشعر الموحدة، ولا تفعيلاته التامة، ولكن القرآن الكريم قابل للتلاوة ترتيلا وتجويدا، وعلى النحو الذي يتسع للألحان والأوزان، ففاق بذلك الشعر، وكان نثرا من نوع فريد ... حتى كان قابلا للحفظ عن ظهر قلب خلال شهور، وربما خلال أسابيع، ولا يدانيه في ذلك أي خطبة بليغة من خطب فصحاء العرب، ولا أي نص من نصوص «النثر» الرفيعة في تاريخ الأدب العربي.
_________
فليس بين أوزانها ومعانيها ارتباط على الإطلاق كالارتباط القياسي الذي يوجد في أوزان اللغة العربية التي اطردت على قياس واحد».
1 / 15
فإذا أضفنا إلى ذلك- بهذه المناسبة- الإشارة إلى «النظم» القرآني المتفرّد، أو إلى بناء هذا النص الإلهي في جمله وآياته وسوره- أو ما يمكن تسميته بروحه التركيبية- جاز لنا أن نقول كذلك: إن من استقام لسانه بهذا الكتاب المعجز، استقام بأي نص من لغة العرب وآدابها في الجاهلية والإسلام، ولا عكس. وقد يكون التدليل على هذا الأمر بحاجة إلى دراسات نظرية وتطبيقية موسّعة. ولكن القدر الذي يمكننا الإشارة إليه في هذه العجالة: أن بلاغة هذه اللغة وشاعريتها الظاهرة في حروفها ومفرداتها وقواعدها وعباراتها- والتي تحدث عنها العقاد- تبلغ ذروتها أو درجتها «الإعجازية» في آدابها أو في جملها وتراكيبها في هذا الكتاب الكريم الخالد، فضلا عن الأثر البيّن للتلاوة والتجويد في تطويع الألسنة على بليغ القول وتنمية مهارات اللسان، والإمداد بثروة هائلة من العبارات والمعاني الدقيقة التي لا تقتصر على العالم دون الجاهل، ولا على الكبير دون الصغير. والله تعالى أعلم.
ثانيا- العرب والقرآن:
لقد نزل القرآن الكريم في العرب وبلغتهم، وبعث النبيّ العربي القرشي الهاشمي- صلوات الله وسلامه عليه- بين ظهرانيهم، وأطلّ العرب بهذا الكتاب الكريم على العالم رسالة إنسانية ورحمة للعالمين ... دورهم فيه دور التبليغ والهداية والجهاد، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا دور المدلّ بعصبية أو عنصرية، بل دور التكليف الأشد والجهاد الأفضل، لأن المزايا الإنسانية تكليف وأعباء لا متع وأزياء! قال الله تعالى في سورة الزخرف مخاطبا نبيّه الكريم ﵊: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) [الآيتان ٤٣ - ٤٤].
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى- ٤٣ - (أي خذ القرآن المنزل على قلبك فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم،
1 / 16
الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم) وقال في معنى الآية الثانية- ٤٤ - (أن القرآن شرف للنبيّ ولقومه ... من حيث إنه نزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه) (١).
قلت: إن الله تعالى لم ينوع بين الأمم والشعوب، ولم يميز بعضها عن بعض بميزات عقلية أو أدبية أو عملية إلا لتكمل البشرية بعضها بعضا لا ليفخر بعضها بذلك على بعض، لأن الفخر بمثل هذه الأمور الفطرية التي لا حيلة للإنسان في كسبها أو دفعها- كاللون أو الجنس- لا يعدو أن يكون طورا من أطوار الطفولة أو المراهقة، أو مرحلة من المراحل السابقة للرشد الإنساني! ولقد كان يجب على الإنسانية أن تتجاوز تلك المراحل من حين نزل قول الله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: ١٣] لأن هذه الآية الكريمة تشير بعد ذلك إلى ميزان التفاضل الحقيقي، وأنه ينبع من الأعمال الكسبية، ومن الإرادة الحرة، والعزيمة النافذة، فيقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقاكُمْ
[الحجرات: ١٣].
أي إن ميزان التفاضل لا ينبع من تلك الخصائص التي امتاز بها شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، لأن ذلك التفاضل أريد به التأكيد على وحدة المجتمع الإنساني وتعارفه، لا تناكره واختلافه! ... كما أن لكل فضيلة ضريبتها أو تبعاتها وتكاليفها الخاصة بها، أو التي تتناسب مع حجمها وطبيعتها! قال النبيّ ﷺ:
«أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» (٢).
ونحن لا نشك في أن خلاصة الفضائل الإنسانية، أو مكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم بوصفه كتاب الإنسانية الأخير الذي نزل به الوحي الأمين ...
_________
(١) تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، ص ١٢٨، دار المعرفة، لبنان.
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. وابن ماجة والحاكم- وقال: على شرط مسلم- بزيادة: «لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر ...» إلخ الحديث بعد قوله: «ثم الصالحون». فيض القدير للمناوي: ١/ ٥١٩ - ٥٢٠.
1 / 17
تمثل منها عند العرب في جزيرتهم، فطرة واستعدادا ما لم تملك مثله أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، أو قبيلة من القبائل.
أقول: فطرة واستعدادا، تمييزا لهذه الأهلية من حيث الفطرة والاستعداد، عن واقع العرب وسلوكهم وممارساتهم في الجاهلية. فالعرب أصلح شعوب الأرض قاطبة لنزول القرآن فيهم وبلغتهم، وللنهوض بحمل أعباء رسالة الإسلام الإنسانية؛ فطرة واستعدادا، ومواهب وملكات، لا واقعا وسلوكا وممارسات ...
في لحظة تاريخية غلبت عليها الحروب والمنازعات، أو سرت إليها بعض الأخطاء والنقائص في الاقتصاد والاجتماع وسائر شئون الحياة ... ومن هنا جاء قول النبيّ ﷺ: «تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه» - رواه الإمام مسلم- وهذا أيضا ما دلّ عليه دعاء النبيّ ﷺ في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد- «اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك:
بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» فإن الدعاء لأحدهما على هذا النحو يدل على إمكانية ترقي كل منهما، بناء على موهبته واستعداده، في المعارج التي ارتقى إليها عمر بن الخطاب- ﵁ يوم أسلم، والمكانة التي تبوأها في التاريخ الإسلامي والإنساني، في حين تورات مواهب عمرو بن هشام- أبي جهل- التي لم تكن بأقل من مواهب ابن الخطاب، وراء رمال الجزيرة، قتلتها العداوة، ودفنها الصلف والجحود! وإن شئت قلت: ضاعت تلك المواهب، أو تلك الفطرة وذلك الاستعداد ... حين لم تتصل بالإسلام، أو حين كفر صاحبها بمحمد والقرآن!
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، في سياق حديثه عن الخصائص العقلية والبيانية، وسائر الخصائص الأخرى التي فضّل بها العرب ... إلى نحو هذا التفريق الذي قدمناه، فقال:
«وسبب هذا الفضل- والله أعلم- ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم
1 / 18
وأخلاقهم وأعمالهم ... وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح.
«والعلم له مبدأ: وهو قوة العقل الّذي هو الحفظ والفهم. وتمام: هو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني ...
«وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة. لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطّلة عن فعله. ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبيّ، ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة. إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم، أو من الحروب.
«فلما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى، الذي ما جعل الله في الأرض، ولا يجعل منه أعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدي الله الذى أنزل على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم، بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج، وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله» (١).
_________
(١) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (٦٦١ - ٧٢٨ هـ) تحقيق محمد حامد الفقي ص ١٦٠ - ١٦٢ المطبعة السلفية.
1 / 19
أشار ابن تيمية ﵀ في هذا الكلام الناصع إلى مزية اللسان العربي على كل لسان- المسألة التي عرضنا لها في النقطة السابقة- كما أشار إلى مدى المواءمة والتوافق بين الكمال بالقوة أو الكامن في فطرة العرب، وكمال القرآن- والشريعة- الذي أنزله الله تعالى فيهم، أو بعبارة أخرى: مدى المواءمة والتوافق بين العرب ورسالة
الإسلام. أو بين مواهب العرب وخصائص الإسلام.
ونحن لا نشك في أن نزول القرآن ورسالة الإسلام في العرب، واختيار خاتم الرسل ﵊ منهم، كان بسبب ما تمتعوا به من الصفات النفسية والذهنية، وما عرفوا به من الفضائل الحميدة، والصفات الكريمة، كالصبر والصدق والكرم والشجاعة والأمانة وصلة الرحم والدفاع عن المظلوم والوفاء بالوعد ... إلخ فضلا عن تأثرهم الشديد بالكلام وما ينطوي عليه من أسباب البلاغة والبيان.
وعلينا أن نلاحظ هنا، شرحا لهذه النقطة، وتعقيبا على تفريقنا المشار إليه بين المواهب والفطرة والاستعداد- أو الكمال بالقوة المخلوقة في العرب بحسب عبارة شيخ الإسلام- (والواقع) الذي كان عليه القوم عند بعثة النبيّ ونزول القرآن .. علينا أن نلاحظ أن جزءا كبيرا من هذا (الواقع) السّيّئ أو الفاسد إن لم يكن الجزء الأكبر والأهم، كانت دوافعه نبيلة، ومقاصده حسنة! وإنما لحقه الخطأ والفساد من اختيار الطرق والوسائل، أو من المغالاة التي قد توقع صاحبها في أسوأ مما كان يحذر؛ كوأد البنات خشية العار على سبيل المثال. ومن المعلوم أن من أسوأ أعمال العرب في الجاهلية: معاقرة الخمر، ولعب الميسر والقمار. وإنما حملهم على هاتين الخلّتين: الجود والكرم، والرحمة بالفقراء والمساكين. أما الخمر فقد أطنب الشعراء في مدحها لأنها تعلّم الخروج عن المال، وتعوّد على البذل والسخاء، وأما المسير فكان الفائز أو الرابح لا يأخذ من الإبل التي جرت عليها المقامرة شيئا! بل يجعل لحومها للفقراء والمساكين. وهذه هي المنافع التي
1 / 20
تعود على (الناس) من الخمر والميسر، والتي أشارت إليها الآية الكريمة، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ...
[البقرة: ٢١٩].
وقد سمّى العلّامة الهندي عبد الحميد الفراهي- الملقّب بالمعلّم- أوضاع العرب الفاسدة التي كانوا عليها في الجاهلية «سيئات»، وذهب في تعليل دوافعها النبيلة، ومقاصدها الأخلاقية الحسنة، إلى حد القول: إن هذه السيئات نبعت من الخيرات، قال ﵀:
«فإن العرب على علّاتها كانت على سذاجة الفطرة، وحب المعالي؛ من الجود وصلة الرحم، والغيرة، والشكر، لا سيما شرفاؤهم وخيارهم، حتى إن سيئاتهم نبعت من الخيرات، فمعاقرتهم للخمر ومقامرتهم للميسر، جاءت من الجود. وحروبهم: من أداء حق المقتول. والغضب: للقسط. وظلمهم: من إباء النفس عن الدنيّة، ولذلك رحموا الضعفاء والأرامل، ولم يقتلوا في الحروب الإماء ولا الأطفال، ولم يرهقوا المنهزمين. وإنما بقوا على الفقر وسوء العيش: لإبائهم عن الطاعة لملك يجمع أمرهم، إلا من لا يتكبر عليهم، ويعدل بينهم، ويكون كأحدهم؛ كما كان الشيخان- في الإسلام- وذوو أمرهم في الجاهلية. فأملكهم وأقهرهم: أعدلهم! كما كان عمر بن الخطاب- ﵁، فلم يرد إلّا أن يقهرهم بكمال عدله» (١).
وقبل أن نختم هذه الفقرة، نشير إلى ما قاله النبيّ الكريم نفسه- صلوات الله وسلامه عليه- في أخلاق العرب في الجاهلية .. فقد جاء في حديث مطوّل أن رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر وعلي، مرّ حين كان يعرض نفسه على القبائل في
_________
(١) نقلا عن الأخ الزميل الدكتور: أحمد حسن فرحات: مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، التي تصدرها جامعة الكويت، ص ١١ السنة السادسة، العدد الثالث عشر، رمضان ١٤٠٩ هـ.
1 / 21
موسم الحجّ «على بني شيبان بن ثعلبة في مجلس عليهم السكينة والوقار» فتقدم أبو بكر فسلّم، قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير. وعرّفهم برسول الله ﷺ، فقال مفروق- وهو من سادتهم-: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم رسول الله ﷺ فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤوني وتنصروني .. وتلا رسول الله ﷺ:* قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) [سورة الأنعام، الآية ١٥١].
فقال مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله ﷺ:
* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) [سورة النحل، الآية ٩٠].
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والله لقد أفك قوم كذّبوك وظاهروا عليك ...
وقال هانئ بن قبيصة- وهو صاحب دينهم-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنّي أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلّة في الرأي، وقلّة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة من العجلة! ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر ...
وقال المثنى بن حارثة- وهو صاحب حربهم-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ... وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى- وقد نزلوا بين أنهاره ومياه العرب- أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعوننا إليه مما تكرهه الملوك! فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا ...
1 / 22
«فقال رسول الله ﷺ: ما أسأتم في الردّ إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ...» الحديث.
«ثم نهض النبيّ ﷺ فأخذ بيد أبي بكر، فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم» (١).
قلت: والناظر في هذا الحديث، أو هذا الحوار بنصّه في كتب السيرة- وقد طوينا بعض جوانبه المطوّلة- لا يصعب عليه أن يهتدي إلى ما كان عليه أمر القوم، أو هذا الحي من أحياء العرب من نظام وشورى، وإنزال الناس منازلهم ومعرفة لكل ذي حق واختصاص حقّه وقدره، إلى جانب ما تمتعوا به من أدب وحسن استقبال، وأناة وبصر بالسياسة وعواقب الأمور، وحفظ للمواثيق والعهود ... فوق ما عرفوا به جميعا من الشجاعة ونصرة المظلوم، وما انطوى عليه لسانهم من بلاغة وبيان، وقدرة فائقة على الخلوص وحسن التعبير! ...
خلاصة وتعقيب: وأخيرا: فإن الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها من خلال هذا العرض الموجز للنقطتين السالفتين: أن هذا الاختيار الإلهي للعرب- قوما ولسانا- لينزل القرآن الكريم بلغتهم، وليكلّفوا بحمل أعباء رسالته إلى العالمين ... يتساوق أو ينسجم تماما مع الطابع الإنساني، العام والخالد، لهذه الرسالة. بل إن هذا
_________
(١) الروض الأنف للفقيه المحدّث أبي القاسم السهيلي ٢/ ١٨١ - ١٨٢ طبعة الإمبابي بمصر ١٩٧٢. وانظر الطبعة الأخرى بتحقيق عبد الرحمن الوكيل ٤/ ٦١. والحديث أخرجه الحاكم وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس ﵄. انظر الزرقاني في شرحه على المواهب ١/ ٣٠٩.
1 / 23
الاختيار في الواقع يومئ إلى هذا الطابع الإنساني- لا القومي- ويدل عليه! لأننا حين أنعمنا النظر في لغة العرب وجدنا أنفسنا أمام لغة إنسانية، كما وصفها العقاد بحق. وحين نظرنا في جماع الفضائل الإنسانية التي جاء بها القرآن، من جهة. وحقيقة البواعث الأخلاقية وجملة الملكات والخصائص النفسية والعقلية ..
التي تؤهل أصحابها للنهوض بتبعات التكليف بأحكام الإسلام على نحو شامل ومتوازن، من جهة أخرى، وجدنا أنفسنا أمام جيل العرب كذلك ... والله أعلم حيث يجعل رسالته.
1 / 24
الفصل الثاني أثر القرآن الكريم في اللغة العربية
يبدو وهذا الأثر من وجهتين: تاريخية، وموضوعية.
أولا- أثره من الوجهة التاريخية:
يمكن تلخيص هذا الأثر الذي تركه القرآن الكريم في اللغة العربية- من هذه الوجهة- بأنه كان لها قوة دافعة، من جهة. وقوة واقية أو حامية، من جهة أخرى.
(أ) القوة الدافعة:
ونعني بالقوة الدافعة: أن القرآن الكريم كان لهذه اللغة قوة هائلة دفعت بها خارج حدودها، أو خارج نطاق الجزيرة العربية، فقد عرّب القرآن العراق والشام، ومصر وسائر بلاد إفريقية الشمالية، مع حركة الفتح العربي الإسلامي، أو مع المدّ الإسلامي الأول زمن الخلفاء الراشدين، وملوك بني أمية. يقول شيخ الباحثين في قضايا العروبة والقومية: إنه يجب «أن لا يغرب عن البال أن العرب قبل الإسلام كانوا قليلين، كما أن مواطنهم كانت محدودة نسبيا، فإن البلاد التي تستحق النعت بالعربية كانت منحصرة في الجزيرة العربية، وبحافات بعض البلاد المجاورة لها، وأما حدود العروبة إلى سائر أنحاء العالم العربي الحالي، فقد تم بفضل الفتوحات العربية التي سارت تحت راية الإسلام.
1 / 25
فإن معظم أقسام العراق والشام، وجميع أنحاء إفريقية الشمالية- من مصر والسودان إلى المغرب الأقصى- كانت غير عربية، ولم تستعرب إلا بعد الإسلام».
وليس معنى ذلك أن العرب بقوا منطوين على أنفسهم في جزيرتهم على كرّ الأزمان، بل إنهم كانوا ينزحون من الجزيرة إلى تلك البلاد المجاورة، إلا أن قبائلهم التي نزحت قبل حمل رسالة القرآن «كانت تفقد صلاتها مع موطنها الأصلي، وتتعرض إلى سلسلة من الأحداث والتطورات التي تنسيها ماضيها، وتؤدي إلى اندماجها بسكان البلاد التي تستوطنها». ويضيف ساطع الحصري- صاحب الاتجاه العلماني المعروف- قائلا: «ولكن الموجة البشرية التي تدفقت من الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام، (قلت: أو التي رفعت راية الإسلام، ومشت في ركاب الفتح الإسلامي، للهداية والتحرير) قد امتازت عن سابقاتها من هذه الوجوه امتيازا هاما جدا، إنها لم تفقد صلتها بمنبعها الأصلي، بل ظلت وثيقة الاتصال به من الوجهتين المادية والمعنوية، وفضلا عن ذلك: استطاعت أن تنشر لغتها في مواطنها الجديدة، وانتهت إلى تعريب سكان أقطار واسعة من البلاد المفتوحة تعريبا تاما» (١).
هذا هو دور القوة الدافعة الذي تم بفضل القرآن الكريم، والذي يمكن تلخيصه بنشر اللغة العربية وتوسيع آفاقها.
يضاف إلى ذلك أن القرآن الكريم ترك أثرا واضحا في لغات الشعوب الإسلامية التي آمنت بالقرآن، ولكن لم يكتب لها أن يتعرب لسانها، كالفارسية والتركية. وأثرا آخر أكثر وضوحا في اللغات التي شاركت لغة القرآن في صنعها بين
_________
(١) ساطع الحصري: ما هي القومية؟ ص ٢٠٦ الطبعة الثانية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ١٩٨٥ م.
1 / 26