Introduction to Linguistics and Research Methodologies
المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي
Daabacaha
مكتبة الخانجي بالقاهرة
Lambarka Daabacaadda
الثالثة ١٤١٧هـ
Sanadka Daabacaadda
١٩٩٧م
Noocyada
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
اللغة أعظم إنجاز بشري على ظهر الأرض، ولولا اللغة ما قامت للإنسان حضارة ولا نشأت مدنية ولقد وقر في أذهان الناس منذ القديم تقديس اللغة وإعظام شأنها، وبلغت القداسة عند الشعوب البدائية، أن ارتبطت اللغة عندهم بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلط الاسم بالمسمى، في عقيدة هذه الأقوام.
وقد أدرك العلماء في العصر الحديث، علاقة اللغة بالمجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تأثرها وتأثيرها عليه، كما عرفوا الصلة القائمة بين اللغة والنفس الإنسانية، وتلونها بألوان الانفعالات والعواطف الوجدانية، لدى بني البشر.
ولم يأل علماء اللغة جهدا في الوقوف على أسباب الصراع اللغوي بين اللغات المتجاورة ومظاهره ونتائجه، وولادة لغة واندثار أخرى، والعلاقة بين اللغات واللهجات.
وأفاد هؤلاء العلماء من معطيات العلوم الأخرى في الدرس اللغوي، فاستخدموا المعامل في الوقوف على كنه الصوت اللغوي ومميزاته، واستطاعوا أن يصفوا بدقة الفرق بين صوت وصوت، ويميزوا الوحدات الصوتية، وتنوعاتها المختلفة في هذه اللغة أو تلك.
كما استخدم العلماء طرائق علم الجغرافيا، في وضع الظواهر اللغوية على خرائط تبين حالها، وتوضح توزيعها بين المتحدثين بهذه اللهجة أو تلك. شأنها في ذلك شأن الظواهر الطبيعية والجوية والاقتصادية، في خرائطها الدالة عليها.
1 / 3
وقد تعددت مناهج البحث اللغوي عند علماء اللغة، وتمخضت بحوثهم عن ثلاثة مناهج مختلفة: المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن. ولكل منهج من هذه المناهج أنصار يدعون له، ويغضون من شأن المناهج الأخرى، ولكننا مع ذلك نرى أن كل منهج منها يؤدي غرضا لا يؤديه غيره، وإن مال الميزان في العصر الحديث مع المنهج الوصفي، وتعددت طرائقه وتشعبت مسالكه.
ولكن هذه اللغة التي جند لها العلماء كل هذا الحشد الهائل من الدراسات والبحوث، لم تسفر بعد عن طريقة نشأتها عند الإنسان الأول، رغم كثرة النظريات والمذاهب اللغوية، حول هذه النشأة.
وهذا الكتاب مدخل إلى كل هذه القضايا اللغوية، توخيت فيه الإحاطة والإيجاز، ولم أغفل جهد السابقين الأوائل من علمائنا العرب، أو أسرف في النقل عن المحدثين من علماء الغرب. وقد أوليت فيه تطبيقات المنهج المقارن عناية خاصة. وفي النية أن تكون لتطبيقات المناهج الأخرى، مساحة في هذا الكتاب في طبعة أخرى بعون الله تعالى.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
د. رمضان عبد التواب
1 / 4
القسم الأول: المدخل إلى علم اللغة
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
علم اللغة، هو العلم الذي يبحث في اللغة، ويتخذها موضوعا له، فيدرسها من النواحي الوصفية، والتاريخية، والمقارنة، كما يدرس العلاقات الكائنة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، ويدرس وظائف اللغة وأساليبها المتعددة، وعلاقتها بالنظم الاجتماعية المختلفة.
وموضوع علم اللغة، هو كل النشاط للإنسان في الماضي والحاضر، يستوي في هذا الإنساني البدائي والمتحضر، واللغات الحية والميتة، والقديمة والحديثة، دون اعتبار لصحة أو لحن، أو جودة أو رداءة، أو غير ذلك١.
واللغة التي يبحث فيها هذا العلم، ليست هي اللغة العربية أو الإنجليزية أو الألمانية، وإنما هي اللغة في ذاتها، ومن أجل ذاتها٢، هي "اللغة" التي تظهر وتتحقق، في أشكال لغات أخرى كثيرة ولهجات متعددة، وصور مختلفة من صور "الكلام" الإنساني، فمع أن اللغة العربية، تختلف عن الإنجليزية، وهذه تختلف عن الألمانية، فإن هناك أصولا وخصائص جوهرية، تجمع ما بين هذه اللغات، كما تجمع بينها وبين سائر اللغات، وصور الكلام الإنساني، وهو أن كلا منها لغة، أو نظام اجتماعي معين، تتكلمه جماعة معينة، بعد أن تتلقاه عن المجتمع، وتحقق به وظائف معينة، ينتقل من جيل إلى جيل، فيمر بأطوار من التطور، متأثرا في ذلك بسائر النظم الاجتماعية، والسياسية، الاقتصادية، والدينية وغير ذلك.
_________
١ انظر: F De Saussure Grundfragen S ٧
٢ انظر: علم اللغة للدكتور محمود السعران ٥١.
1 / 7
وهكذا نرى أن علم اللغة، يستقى مادته من النظر في اللغات على اختلافها، وهو يحاول أن يصل إلى فهم الحقائق والخصائص، التي تجمع اللغات الإنسانية كلها، في إطار واحد.
وتتحدد لذلك وظائف علم اللغة فيما يلي١:
١- وصف ما وصل إلينا من اللغات البشرية، والتأريخ لها، وتقسيم اللغات إلى فصائل وعائلات، وإعادة صوغ اللغات الأم، لكل هذه الفصائل، على قدر الإمكان.
٢- البحث عن القوى المؤثرة في حياة اللغات في كل مكان، واكتشاف القوانين العامة، التي تفسر الظواهر اللغوية الخاصة بكل لغة.
٣- تحديد مجالات علم اللغة، والبحث عن تعريف مناسب لهذا العلم.
وكان لا بد لكي تكتمل مباحث هذا العلم، أن يسبق بدراسات تفصيلية لمعظم لغات البشر، وقد مهدت تلك الدراسات المستقلة لكل لغة على حدة، للبحث في تاريخ اللغات والمقارنة بينها، فكثر التفكير في نشأة اللغة، وفي تطورها، وفي العائلات اللغوية، وغير ذلك.
نعم إن تلك الدراسات السابقة للغات البشر، أو لأشهرها، يعاد النظر فيها الآن مرة أخرى. والذي يدعو إلى إعادة النظر فيها، هو نتائج "علم اللغة" نفسه؛ لأن بعض تلك الدراسات، قام على أسس غير سليمة، أو استعان بوسائل قاصرة، ولكن تلك الدراسات، مع ما فيها من
_________
١ انظر: F De Saussure Grundfragen K ٧
1 / 8
قصور، كانت خطوة أساسية، لظهور "علم اللغة"، ووصوله إلى ما وصل إليه الآن.
ومن واجبات اللغوي أن يدرس اللغة كما هي، فليس له أن يغير من طبيعتها، شأنه في ذلك شأن الباحث في أي علم من العلوم، فليس له أن يقتصر في بحثه على جوانب من اللغة مستحسنا إياها، وينحي جوانب أخرى، استهجانا لها، أو استخفافا بها، أو لغرض في نفسه، أو لأي سبب آخر من الأسباب.
ولا ترمي دراسة علم اللغة إلى أغراض عملية، فالباحث اللغوي يدرس اللغة لغرض الدراسة نفسها، فهو يدرسها دراسة موضوعية، تستهدف الكشف عن حقيقتها، فليس من موضوع دراسته، أن يحقق أغراضا تربوية مثلا، أو أية أغراض عملية أخرى، فهو لا يدرسها بغرض الارتقاء بها مثلا، أو تصحيح جوانب منها، أو القضاء على عوج فيها، فإن عمله يجب أن يقتصر على وصفها وتحليلها، بطريقة موضوعية.
1 / 9
مجالات علم اللغة:
يبحث علم اللغة في المجالات التالية:
١- دراسة الأصوات التي تتألف منها اللغة، ويتناول ذلك تشريح الجهاز الصوتي لدى الإنسان، ومعرفة إمكانات النطق المختلفة الكامنة فيه، ووصف أماكن النطق ومخارج الأصوات في هذا الجهاز، وتقسيم الأصوات الإنسانية إلى مجموعات، تظهر في كل مجموعة منها خصائص معينة، ودراسة المقاطع الصوتية، والنبر والتنغيم في الكلام، والبحث عن القوانين الصوتية التي تكمن وراء إبدال الأصوات وتغيرها. كل ذلك يتناوله فرع خاص من فروع علم اللغة، وهو "علم الأصوات".
٢- دراسة البنية، أو البحث في القواعد المتصلة بالصيغ، واشتقاق الكلمات وتصريفها، وتغيير أبنية الألفاظ للدلالة على المعاني المختلفة، وهو ما يدرس عند العرب باسم "علم الصرف".
٣- دراسة نظام الجملة، من حيث ترتيب أجزائها، وأثر كل جزء منها في الآخر، وعلاقة هذه الأجزاء بعضها ببعض، وطريقة ربطها، وبعض هذه البحوث تدرس عند العرب في "علم النحو".
٤- دراسة دلالة الألفاظ، أو معاني المفردات، والعلاقة بين هذه الدلالات والمعاني المختلفة، والحقيقي منها والمجازي، والتطور الدلالي وعوامله ونتائجه، ونشوء الترادف والاشتراك اللفظي والأضداد، وغير ذلك. وكذلك دراسة حياة الكلمة عبر العصور اللغوية المختلفة، وما ينتابها من تغير في الصوت والدلالة، وما يطرأ عليها من أسباب الرقي والانحطاط، وعوامل البلي والاندثار.
1 / 10
٥- البحث في نشأة اللغة الإنسانية. وقد ظهرت في ذلك عدة نظريات مختلفة، تحاول أن تفسر لنا، كيف تكلم الإنسان الأول هذه اللغة، التي تطورت على مر الأزمان، حتى وصلت إلينا في صورها المختلفة الراهنة. وقد نادى بعض اللغويين المحدثين بإخراج موضوع نشأة اللغة، من موضوعات علم اللغة، أمثال "فندريس" Vendryes الذي يرى "أن غالبية أولئك الذين كتبوا عن أصل الكلام، منذ مائة عام، يهيمون في تيه من الضلال.. وغلطتهم الأساسية، أنهم يواجهون هذه المسألة، من الناحية اللغوية، كما لو كان أصل الكلام، يختلط بأصل اللغات"١.
فإن اللغويين يدرسون اللغات، التي تتكلم والتي تكتب، ويتتبعون تاريخها، بمساعدة أقدم الوثائق التي تم اكتشافها، ولكنهم مهما أوغلوا في هذا التاريخ فإنهم لا يصلون إلى لغات قد تطورت، وتركت وراءها تاريخا ضخما، لا نعرف عنه شيئا. أما فكرة الوصول إلى إعادة بناء رطانة بدائية، بمقارنة لغات موجودة بالفعل، فسراب خداع!.
٦- علاقة اللغة بالمجتمع الإنساني والنفس البشرية. وهنا يتنازع علم اللغة علمان آخران، هما: علم الاجتماع، وعلم النفس، فهناك بحوث ترمي إلى بيان العلاقة بين اللغة والإنسان في حياته الاجتماعية، وتبين أثر المجتمع وحضاراته ونظمه، وتاريخه وتركيبه وبيئته الجغرافية، في مختلف الظواهر اللغوية، كما أن هناك بحوثا أخرى نفسية، تدرس العلاقة بين الظواهر اللغوية، والظواهر النفسية، بمختلف أنواعها، من تفكير وخيال، وتذكر واسترجاع وعاطفة، وغير ذلك.
_________
١ اللغة لفندريس ٢٩.
1 / 11
٧- وآخر مجالات هذا العلم، هو البحث في حياة اللغة، وتطورها في نواحي: الأصوات، والبنية، والدلالة، والتركيب وغير ذلك. وكذلك البحث في صراع اللغات، وانقسامها إلى لهجات، وصراع اللهجات بعضها مع بعض، وتكون اللغات المشتركة، وغير ذلك من الأمور.
1 / 12
الفصل الأول: الدراسة الصوتية
مدخل
...
الفصل الأول: الدراسة الصوتية
مقدمة:
الوحدة الكبرى لأية مجموعة كلامية، هي الجملة، مثل قولنا: "محمد في البيت" مثلا. وتتركب الجملة من وحدات أصغر منها، هي ما يطلق عليها اسم الكلمات، مثل: "محمد" و"في" و"البيت" في الجملة السابقة، كما تتركب الكلمات هي أيضا من وحدات أصغر منها، هي ما يطلق عليه اسم: الأصوات، مثل ما نراه في كلمة "محمد" من صوت الميم، ثم صوت الضمة، ثم صوت الحاء، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الميم، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الدال، على الترتيب.
وهذه الوحدات الأخيرة، هي موضوع "علم الأصوات" الذي يدرس الأصوات اللغوية، من ناحية وصف مخارجها، وكيفية حدوثها، وصفاتها المختلفة، التي يتميز بها صوت عن صوت، كما يدرس القوانين التي تخضع لها هذه الأصوات في تأثرها بعضها ببعض، عند تركبها في الكلمات أو الجمل.
فالصوت الإنساني الحي، هو موضوع علم الأصوات اللغوية. ولم يكن هذا العلم وليد العصر الحاضر. فقد شغل اللغويون من قديم١، بالنظر في الأصوات اللغوية، غير أن ما وصلوا إليه قديما، لم يكن قائما على أساس علمي ثابت، ولهذا فإنه لا يبلغ من الدقة والإتقان والضبط، ما وصل إليه المحدثون من علماء اللغات.
_________
١ انظر تفصيل القول في الدراسات الصوتية الأولى، عند اليونان والرومان والهنود، في كتاب: علم اللغة للسعران ٩٢-٩٦.
1 / 13
وإذا نظرنا إلى جهود علماء العربية في هذا الشأن، نجد أن أصوات اللغة، كانت من الأمور، التي جذبت انتباه علماء العرب الأوائل، فعملوا في جهد لا يعرف الملل، على إتقان النطق بها، وعلى الأخص عندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض المختلفة، وطرقت أسماع العرب أصوات اللغات الأخرى، فخشي العلماء أن تنحرف أصوات العربية، بتأثرها بأصوات تلك اللغات، فلم يكد القرن الثاني الهجري يبدأ، حتى قام بين علماء العرب، من يصف الأصوات العربية، معتمدا على التجربة باللسان والأذن، لا على المعامل والأجهزة؛ إذ لم تكن قد عرفت بعد، في ذلك العصر.
واشتهر من بين العلماء في ذلك العصر الأول، الخليل بن أحمد الفراهيدي "توفي سنة ١٧٥هـ" الذي عني كثيرا بدراسة الأصوات، وموسيقى اللغة، وقد ساعده سمعه المرهف الحساس على التفوق في هذه الناحية، فوجه عنايته لأوزان الشعر وإيقاعه، واستخرج لنا بحور الشعر وقوافيه أو علم العروض، الذي لا يعدو أن يكون دراسة صوتية، لموسيقى الشعر، واتجه كذلك إلى الألحان والأنغام، وألف في الإيقاع والنغم. وأخيرا حين بدا له وضع معجم لألفاظ اللغة، رتبه على حسب مخارج الأصوات، وهذا المعجم هو كتاب: "العين". ومهما يكن القول في شأن هذا المعجم من أنه تضمن مسائل لغوية، نقدها علماء العربية، بعد ظهوره، وأنكروا نسبتها إلى الخليل، ونزهوه عن الوقوع في أمثالها، وذهب بعضهم لهذا إلى نفي نسبة هذا الكتاب إليه فالذي لا شك فيه أن الخليل، قد وضع هيكل هذا المعجم، ورسم منهجه ونظامه، وأن ما جاء فيه مما أنكره هؤلاء العلماء، إنما أقحم في ثناياه بعد الخليل.
رأى الخليل بن أحمد، أن الترتيب المألوف لحروف الهجاء العربية، وهي: أب ت ث ج ح خ ... إلخ، إنما استمده النساخ والكتبة من
1 / 14
الترتيب السامي القديم، الذي اشتهر عند الأمم السامية القديمة، كالفينيقيين والعبريين، وهو ترتيب أبجدهوز ... إلخ، وأن النساخ قد وضعوا الرموز المتشابهة الصورة، بعضها بجوار بعض، ومن هنا جاء الترتيب الهجائي المألوف لنا. كما وجد الخليل أن هذا الترتيب الهجائي المألوف، ليس قائما على أساس علمي، فآثر أن يختار ترتيبا آخر، أساسه مخارج الأصوات، ورتب معجمه العين" على ذلك، فبدأ بأصوات الحلق، وجعلها أقساما، ثم أصوات أقصى الفم، ثم أوسط الفم، ثم أدنى الفم، ثم الشفتين، فجاء ترتيبه للأصوات اللغوية في العربية، على النحو التالي١:
ع ح هـ خ غ/ ق ك/ ج ش ض/ ص س ز/ ط د ت/ ظ ذ ث/ ر ل ن/ ف ب م/ وا ي.
وكان الخليل بن أحمد أسبق من ذاق الحروف، ليتعرف مخارجها، يقول عنه تلميذه الليث بن المظفر: "وإنما كان ذواقه إياها، أنه كان يفتح فاه بالألف، ثم يظهر الحرف، نحو: أب، أت، أح، أع، أغ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق، فجعلها أول الكتاب"٢.
وهذا معناه تجربة النطق بالصوت ساكنا، لئلا يختلط بغيره، ويلتبس على الناطق معرفة كيفية صدوره ومخرجه الدقيق. وهذه الطريقة تقرب مما يدعو إليه المحدثون، من علماء الأصوات.
وجاء "سيبويه" تلميذ الخليل بن أحمد، فخصص للدراسة الصوتية فصولا، في كتابه، "الكتاب"، فذكر عدد الحروف العربية، ومخارجها،
_________
١ انظر كتاب العين للخليل بن أحمد ١/ ٥٣، ١/ ٦٥.
٢ العين للخليل بن أحمد ١/ ٥٢.
1 / 15
ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها، واختلافها، وذلك في باب عقده للإدغام، وقال في آخره: "وإنما وصفت لك في حروف المعجم بهذه الصفات، لتعرف ما يحسن فيه الإدغام، وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك، وما تبدله استثقالا كما تدغم، وما تخفيه وهو بزنة المتحرك"١. وقد رتب سيبويه الأصوات العربية، حسب مخارجها على النحو التالي مخالفا في بعضه لترتيب الخليل:
ء اهـ ع غ خ/ ق ك/ ج ش ي ض/ ل ر ن/ ط د ت/ ص ز س/ ظ ذ ث/ ف ب م و.
وقد تأثر بكتاب سيبويه كل من جاء بعده من النحاة واللغويين، لا في آرائه النحوية فحسب، بل في آرائه الصوتية كذلك، فأخذوا يرددون كلامه في الأصوات دون أن يزيدوا عليه ما يستحق الذكر، فهذا ابن جني في القرن الرابع الهجري، يؤلف كتابا مستقلا في علم الأصوات هو: "سر صناعة الإعراب"، لا يكاد يخرج فيه عن كلام سيبويه، في تعداد المخارج، ووصف الحروف، فكثيرا ما يقتبس نص العبارات التي جاءت في كتاب سيوبه، ويقف عند حدودها.
وهو في بداية كتابه، يلتمس لحدوث الأصوات وسيلة للإيضاح، لم يهتد إليها سيبويه من قبل؛ إذ يشبه ابن جني مجرى النفس في أثناء النطق بالمزمار، كما يشبه مدارج الحروف ومخارجها، بفتحات هذا المزمار، التي توضع عليها الأصابع، أو بوتر العود وأثر الأصابع، فيقول: "شبه بعضهم الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس ساذجا، كما
_________
١ كتاب سيبويه ٢/ ٤٠٦، ٤٠٧
1 / 16
يجري الصوت في الألف غفلا بغير صنعة، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم، باعتماد على جهات مختلفة، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة.
ونظير ذلك أيضا وتر، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسل، سمعت له صوتا، فإن حصر آخر الوتر ببعض أصابع يسراه، أدى صوتا آخر، فإن أدناها قليلا سمعت غير الاثنين، ثم كذلك كلما أدنى إصبعه من أول الوتر، تشكلت لك أصداء مختلفة ... فالوتر في هذا التمثيل كالحلق، والخفقة عليه بالمضراب، كأول الصوت من أقصى الحلق، وجريان الصوت فيه غفلا غير محصور، كجريان الصوت في الألف الساكنة، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع، كالذي يعرض للصوت في مخارج الحروف من المقاطع، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا، وإنما أردنا بهذا التمثيل الإصابة والتقريب"١.
وجاء القرن الخامس الهجري، يحمل إلينا رسالة صغيرة في الأصوات العربية، للرئيس ابن سينا، فيلسوف الإسلام، واسمها: "أسباب حدوث الحروف"، وهي مقسمة على ستة فصول، الأول منها في سبب حدوث الصوت، ويقصد به صوت الإنسان وغيره، والثاني في سبب حدوث الحروف، ويقصد بالحروف الأصوات الإنسانية، والثالث في تشريح الحنجرة واللسان، والرابع في الأسباب الجزئية لحرف حرف من حروف العرب، والخامس في الحروف الشبيهة بهذه الحروف، وليست في لغة العرب، والسادس في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تسمع. وحديث ابن سينا في هذه الرسالة، أشبه بحديث علماء وظائف الأعضاء،
_________
١ سر صناعة الإعراب ١/ ٩.
1 / 17
فلا نكاد نلمح فيها أنه تأثر كغيره بكتاب سيبويه، فله مصطلحاته، وله وصفه الأصيل لكل صوت، مما جعله محل إعجاب وتقدير من بعض اللغويين المحدثين.
وفي القرن السادس الهجري، يؤلف الزمخشري كتابه "المفصل" في النحو، ويخصص القسم الأخير منه للدراسة الصوتية، فيردد فيه كلام الخليل وسيبويه، دون زيادة تذكر.
ولا نكاد نجد بعد هذا في كتب المتأخرين، ما يمكن أن يتسم بالأصالة في دراسة أصوات اللغة، سوى تلك المحاولة التي جاءت في كتاب السكاكي: "مفتاح العلوم" في أوائل القرن السابع الهجري، من رسم بدائي لأعضاء النطق.
ورغم كثرة كتب القراءات في العصور المتأخرة، وعلاجها المسهب للقراءات السبع والعشر وغيرها، نرى أنها حين تعرض لأصوات اللغة، تكتفي ببضع صفحات، تصف فيها مخارج الحروف وصفاتها، في صورة مقتضبة مختصرة، لا تخلو من الغموض أو التحريف، في بعض الأحيان، كما أن عناية أصحابها قد وجهت كلها، إلى رواية القراءات وسندها، معتمدين على تلقين القراءات وضبطها، عن طريق التلقي الشفوي، جيلا بعد جيل، حتى انتهى الأمر إلى بضعة متون صغيرة، سميت "بعلم التجويد" يحفظها الطالب عن ظهر قلب، دون فهم لها في غالب الأحيان. وقد التزمت هذه المتون في غالب أحوالها، نصوص سيبويه وعباراته في شرح أصوات اللغة ووصفها.
تلك هي الدراسات الصوتية عند قدامى العرب. أما الدراسات الصوتية عند علماء الغرب، فقد ظهرت بوادرها في الربع الأول من القرن
1 / 18
التاسع عشر الميلادي، حين أخذ العلماء هناك، يقارنون اللغات الهندأوربية بعضها ببعض١.
أما المؤلفات الحديثة في علم الأصوات باللغة العربية، فمنها:
١- الباب الأول من كتاب "التطور النحوي" ص١١-٧٣ وهو عبارة عن سلسلة محاضرات، ألقاها المستشرق الألماني "برجشتراسر" باللغة العربية، على طلبة كلية الآداب، بالجامعة المصرية القديمة سنة ١٩٢٩م. وهو يهتم فيها بالمقارنات السامية اهتماما بالغا.
٢- "علم الأصوات عند سيبويه وعندنا" محاضرة للمستشرق الألماني: "شاده" ألقاها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية في سنة ١٩٣١ باللغة العربية، ونشرت بصحيفة الجامعة المصرية سنة ١٩٣١م. وهذه المحاضرة خلاصة مؤلف باللغة الألمانية لهذا المستشرق.
٣- "الأصوات اللغوية" للدكتور إبراهيم أنيس، وهو أول كتاب متكامل باللغة العربية عن الدراسات الصوتية على المنهج اللغوي الحديث. وقد صدرت أولى طبعاته في عام ١٩٤٧م.
٤- "منهج الأصوات" فصل من كتاب: "مناهج البحث في اللغة" ص٥٩-٧٠ للدكتور تمام حسان، وفيه اهتمام كبير بعلم الأصوات التجريبي. وقد ظهر سنة ١٩٥٥م.
٥- "الأصوات اللغوية" فصل من كتاب "فقه اللغة" لمحمد المبارك ص٢٩-٥٠ وهو عبارة عن دراسة تقليديه، تعتمد على ترديد أقوال
_________
١ انظر في ذلك مقالة الدكتور مراد كامل: "علم الأصوات، نشأته وتطوره" بمجلة مجمع اللغة العربية ١٦/ ٥٧-٧٩.
1 / 19
السابقين من اللغويين العرب. والكتاب مطبوع بدمشق سنة ١٩٦٠م.
٦- الباب الثاني من كتاب "علم اللغة" للدكتور محمود السعران ص٩١-٢٢٠ وقد أفاد فيه مؤلفه من كثير من مؤلفات الغرب في الدراسات الصوتية. وقد ظهر الكتاب في عام ١٩٦٢م.
٧- مقالة بعنوان: "جهود علماء العرب في الدراسة الصوتية" للدكتور إبراهيم أنيس، بمجلة مجمع اللغة العربية "سنة ١٩٦٣" ١٥/ ٤١-٤٩.
٨- "أصوات اللغة" للدكتور عبد الرحمن أيوب. صدرت الطبعة الأولى منه سنة ١٩٦٣م والثانية سنة ١٩٦٨. وقد اعتمد فيه صاحبه اعتمادا كبيرا على كتاب "هفنر" Heffener "علم الأصوات العام" General Phoetics المطبوع في أمريكا سنة ١٩٥٢م.
٩- "دروس في علم أصوات اللغة العربية" لجان كانتينو ترجمه إلى العربية "صالح القرمادي" ونشره في تونس سنة ١٩٦٦.
١٠- "الأصوات" للدكتور كمال محمد بشر، وهو القسم الثاني من كتابه: "صالح القرمادي" ونشره في تونس سنة ١٩٦٦م.
١١- مقالة بعنوان: "مشكلة الضاد العربية، وتراث الضاد والظاء" للدكتور رمضان عبد التواب، بمجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الحادي والعشرون" في سنة ١٩٧١م.
١٢- "دراسة الصوت اللغوي" للدكتور أحمد مختار عمر، نشر بالقاهرة سنة ١٩٧٦م.
1 / 20
١٣- في علم الأصوات الفيزيقي "مدخل إلى التصوير الطيفي للكلام" لإرنست بولجرام، ترجمة الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح، القاهرة ١٠٧٧م.
١٤- "دراسة السمع والكلام" للدكتور سعد عبد العزيز مصلوح، القاهرة ١٩٨٠م.
١٥- "في البحث الصوتي عند العرب" للدكتور خليل إبراهيم العطية، بغداد ١٩٨٣م.
١٦- "علم الأصوات" لبرثيل مالبرج، ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين، القاهرة ١٩٨٥م.
1 / 21
كيف يحدث الصوت الإنساني:
ينبغي قبل أن نعرف الإجابة على هذا السؤال، أن نتعرف الجهاز النطقي عند الإنسان، وهو عبارة عن التجويف الفمي والأنفي، والحلق، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والرئتين. وفي تسمية هذه الأعضاء كلها بالجهاز النطقي، إجحاف بوظائفها الحيوية الأخرى، إذا علمنا أن الشفتين تستخدمان لتلقي الطعام عند دخوله في الفم، كما تسخدمان صماما لمنع الطعام أن يخرج من الفم في أثناء المضغ، كما تستعملان في المص، بتضييق الفجوة بين منطقة الضغط الخفيف داخل الفم، والسائل الذي يراد امتصاصه وغير ذلك من الأغراض الأخرى.
أما الأسنان والأضراس، فلتقطيع الطعام ومضغه، واللسان لتقليب الطعام في الفم وتذوقه. أما الأنف والتجويف الأنفي، فليسا إلا حجرة يتكيف فيها الهواء، قبل نزوله إلى الرئتين. أما الحلق فإنه ليس إلا ممرا للطعام والهواء كليهما. وينتهي الحلق بالحنجرة، وفيها الأوتار الصوتية التي تؤدي وظيفة الصمام للرئتين لحفظها، ولحبس الهواء فيهما عند الحاجة إليه. أما القصبة الهوائية، فإنها الطريق الذي يمر به الهواء الداخل للرئتين أو الخارج منهما. وأما الرئتان فإنهما لتنقية الدم الموجود بالجسم، بإعطائه الأوكسجين، وتخليصه من ثاني أكسيد الكربون، ثم توزيع هذا الدم الصالح، على أعضاء الجسم بواسطة القلب.
وعلى ذلك "فالنطق في الواقع، ليس أكثر من وظيفة ثانوية، تؤديها هذه الأعضاء، إلى جانب قيامها بوظائفها الرئيسية، التي خلقت من أجلها، ولهذا فإن عجز الإنسان عن الكلام، لأصابته بالبكم، لا يعني على الإطلاق عجز أعضائه هذه عن القيام بوظائفها الأخرى، التي تحفظ على
1 / 22
صاحبها الحياة، فلسان الأخرس يقوم بجمع الوظائف التي يقوم بها لسان غير الأخرس، فيما عدا الكلام، بطبيعة الحال"١.
ولكل هذا نرى أن الأعضاء، التي جرى الاصطلاح على تسميتها أعضاء النطق، لا تنحصر وظيفتها في إحداث الأصوات، بل إن لها وظائف حيوية أخرى، ويوجد لدى كل حيوان جهاز يماثل أو يقارب الجهاز النطقي لدى الإنسان، غير أن الإنسان استخدم ذكاءه على توالي الأيام والعصور، فاستطاع أن يكيف جهازه الصوتي في أوضاع مختلفة، مع إخراج الهواء من الرئتين، فأنتج بذلك أصواتا مختلفة المخارج والصفات، يتألف منها كلامه الإنساني.
أما الحيوان فإنه قد يستخدم نقطة ما من هذا الجهاز الصوتي، فيخرج صوتا واحًدا متشابها، أو صوتين متواليين دائما.
وفيما يلي صورة تقريبية "للجهاز النطقي" عند الإنسان:
_________
١ أصوات اللغة، للدكتور عبد الرحمن أيوب ٤٠.
1 / 23
وإذا نظرنا إلى هذا الجهاز النطقي، نجد أنه يتكون من أجزاء ثابتة، وأخرى متحركة، فالأجزاء الثابتة فيه هي الأسنان العليا، واللثة، والغار وهو أجزء الصلب من سقف الحنك. ومن الأجزاء الثابتة كذلك: الجدار الخلفي للحلق، وما عدا ذلك من أجزاء الجهاز النطقي فمتحرك.
وسنشرح فيما يلي كل جزء من أجزاء هذا الجهاز، مع بيان دوره في إحداث الصوت.
1 / 24