الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين
تأليف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين
تحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
واكب النضال المسلح في الجزيرة العربية إبان تطهيرها من فلول الهمجية – العثمانيون والمنتفعون بوجودهم من شذاذ الآفاق ومرتزقة البوادي (١) - في العقد الرابع من القرن الثالث عشر، كفاح فكري متحفز قاده علماء البلاد وأشبال الدعوة السلفية الحرة.
بعد أن عمل الغزاة على تلويث عقول الجهلة والعوام، واستماتوا في دفعهم عن المنهج الأصولي بكل ما يملكون من فنون المكر والدجل والتضليل.
آملين أن يخمدوا جذوة التحرر، أو يفلحوا في تحجيم دور الدين الإسلامي وكبته وإلباس الناس ثوب العلمانية الكافر.
واتخذوا من نشر البدع والإغراق في الشعوذة والتخريف الصوفي، سبيلا لذلك. لكنها لم تجد في قلوب العقلاء متسعا، ولا في عقولهم تصديقا أو قبولا، فارتدوا على أعقابهم أوفر الخلق خيبة وخسارة.
واستطاع الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (ت١٢٤٩) أن يأخذ بزمام المبادرة، بفضل الله ثم بفضل إيمانه العميق وحنكته وشجاعته، وصبره، وبفضل الرجال الأبرار المخلصين لله ثم للدين والوطن من أبناء نجد الشامخة الأبية.
_________
(١) ينظر مقدمة " الدلائل في حكم موالاة أهل الشرك" للشيخ سليمان بن عبد الله.
1 / 5
وتمكن في سنوات قليلة من طرد المعتدي الآثم مجللا بالخزي والعار، وأن يوحد الجزيرة العربية في نظام سياسي متميز تحكمه شريعة الله وتسوده روح الوئام.
وكان للعلماء من أبناء الدعوة الدور البارز في بناء صرح الدولة، وإرساء نظامها والذود عن مكتسباتها، منذ انطلاق شرارة التوحيد والإصلاح (١) .
في تلاحم فريد: شعاره الحب في الله، ودثاره الاحترام المتبادل والسعي الحثيث في إعلاء كلمة الله، ونشر الأمن وتخليص عقول الناس وأبدانهم من رق عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده لا شريك له.
فأعادوا للإسلام هيبته التي خلفت لمعانها وافتقدت في الكثير من بقاع العالم، وأخذوا يشقون طريقهم بين الأمم في قوة وعنفوان، ففرح المسلمون بهم وتجدد بهم الأمل الذي طالما كان حلما بعيد المنال.
وهذه المنظومة الرائعة التي رافقت الدعوة منذ بزوغ نجمها المتألق، ومنذ ميثاق الدرعية الذي بني على أساس من نظرة الإسلام الشمولية للسياسية بنوعيها الداخلي والخارجي.
والمستمد من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وسيرة الصحابة والتابعين وخلفاء الإسلام.
كانت هي السياج المنيع، والدرع الذي تحطم عليه الطغيان والظلم والاستبداد، وانهارت أمامه المطامع الشخصية وشهوة التفرد.
واستمر موكب الدعوة والدولة تحوطه المحبة وتظلله الرحمة وتسيره المبادئ
_________
(١) حفظ لنا التاريخ صورة نادرة، دارت أحداثها بين كل من العالم المجاهد عبد الرحمن بن حسن والإمام تركي بن عبد الله، يرويها الشيخ المعمر عبد العزيز بن مرشد عن أستاذه العلامة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن. وملخصها: أنه بعد أن استطاع الشيخ عبد الرحمن الإفلات من المنفى بمصر، قصد مكة ثم انصرف إلى نجد مع حجاج القصيم، واستقر بها. ولما علم الإمام تركي بعودته بعث إليه يطلب منه القدوم إلى الرياض، ولم يستجب لطلبه، حتى تأكد من أنه ما قام إلا من أجل إقامة شرح الله وإحياء دينه، وحماية الدعوة المهيضة فوضع يده في يد الإمام تركي، واستمرت كتائب التوحيد تحمل الحب والطموح.
1 / 6
ويقوده العدل والإنصاف، دون أن يسمح لواش أو كاذب مفتون أن يتسلل إلى صفائه ليعكره، أو طريقه ليعطله ويصرفه عن وجهته التي يحبها الله ورسوله وأهل الإيمان والفضيلة والغيرة والشرف.
والتأريخ أعظم شاهد على أهمية وحساسية هذه العلاقة الحميمة.
فحسبك أن تنظر إلى ما حدث هنا وهناك على امتداد الأدوار التاريخية المتعاقبة وسوف تجد مصداق ذلك ظاهر كرابعة النهار.
موضوع الكتاب:
هذا السفر حلقة من حلقات الجهاد العبق، وصفحة من صفحاته، اضطلع به رجال الدعوة وأبلوا فيه بلاءا حسنا منذ أن تعرضوا لأول كيد ووصلت إليهم طليعة الانحراف والتحجر. فقيضهم الله منافحين محتسبين حتى ردوا كيدهم وكشفوا عوار أقوالهم، وفضحوا مؤامراتهم.
وهكذا تسلسلت حلقات الحب والصدق والدعوة؛ لتستمر مسيرة الخير تنير للناس الطريق وتهديهم إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، واجه كغيره من علماء تلك الفترة الحرجة، بعض الوجوه الكالحة التي استمرأت البدعة، وعشعش الانحراف في قلوبهم وعقولهم، فأصبحوا أسارى التخلف والتبعية.
فقام ﵀ بواجبه، وأدى حق العلم الذي أئتمن عليه هو وإخوانه من أهل العلم والإيمان.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، يحكي بصدق جانبا من جهاده.
وقد استهله بمقدمة ضافية، بين فيها الغاية من الخلق ومعنى العبودية ومقتضياتها، ومعنى كلمة التوحيد الخالدة.
وأوضح ضلال وتناقض من قال بأن كلمة لا إله إلا الله ترفع الحرج حتى وإن ارتكب الشرك وعبد غير الله.
1 / 7
وأشار إلى أن من كيد الشيطان للمبتدعة سلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، حتى اختلطت عليهم المفاهيم، وساعدهم على ذلك بعض المغرضين.
ثم عقد فصلا ذكر فيه بعض الشبه التي تعلقوا بها، وبين أن مرتكب الشرك الأكبر ليس معذورا لجهله؛ وإلا للزم عليه أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند.
وأفاض في تأكيد هذا الأصل العظيم، وأن حجة الله قائمة على الناس بإرسال الرسل، وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته، ففرق بين فهم الحجة وقيام الحجة وعقد فصلا آخر أبان فيه عن أهمية معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، لاسيما حدود ما أنزله في الأسماء.
وأن منبع الضلال: الغلط في معرفة حقيقة الشرك الأكبر. وتعرض لبعض دعاويهم فأبطلها.
ثم عقد فصلا ثالثا" وسع الحديث فيه عن الجناية المترتبة على عدم فهم حدود ما أنزل الله، وأن دعوى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله فقط، مجرد مكابرة مكشوفة.
وفي الفصل الرابع: نافح عن شيخ الإسلام، وردَّ فيه تزوير وكذب الكاذبين بأنه يرى أن المتأول والمجتهد المخطئ والمقلد مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك والكفر.
ونعى بمرارة ما يفعله بعض علماء زمانه من تجويز الممارسات الشركية ومباركتها، وتعجب من إنكار بعض اليهود لما يرونه عند هذه المشاهد، مع إصرار من ينتسب إلى الإسلام عليها.
وبين في أثناء هذا الفصل" أنه لا يجوز للمسلم أن يحكم بكفر أحد حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
وأنحى بعد ذلك باللائمة على من سهل للمشركين ما ارتكبوه، وجادل عنهم بالباطل، وأن هذا منتهى الجهل والظلم، وعقبه بحكم الذبح لغير الله والاستغاثة به
1 / 8
ثم عقد فصلا خامسا: فرق فيه بين الكرامة وبين الأحوال الشيطانية وهوس الصوفية.
وختم كتابه بفصل سادس توجه فيه إلى المنتسبين للعلم، بأن عليهم أن يتجردوا عن الجهل والتعصب، ويكون مرجعهم كتاب الله وسنة رسوله، دون العوائد استحسانات الناس، ولا يستوحشوا من قلة السالكين، فإن أهل الحق هم القلة دائما.
أهمية الكتاب:
يأتي هذا البحث ليعالج أعمق القضايا المتعلقة بتوحيد الألوهية، الذي هو أعظم أنواع التوحيد قاطبة وأجدرها بالعناية والاهتمام، وليفضح ما تبقى من شبه المضللين المتداعية، وهي لا تعدو أن تكون زوابع عابرة قوامها التعنت والاستكبار، ومحركها المنافع الشخصية الدنيئة ويمكن تلخيص تلك الترهات فيما يلي:
١ – أنا لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم.
٢ – من قال: لا إله إلا الله، ما نقول فيه شيئا وإن فعل ما فعل.
٣ – قول ابن تيمية: أن المتأول والمجتهد المخطئ والمقلد، مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك والكفر.
٤ – قصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته، فجهل أن فعله كفر فلم يكفر.
٥ – أن طلب الأموات ليس دعاء بل هو نداء.
وأنت ترى أنها ما بين دعوة إلى العجز والتواكل، وبين سوء فهم وكذب بين.
ولكن كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ .
1 / 9
المؤلف
نسبه ومولده:
هو العلامة الحافظ الفقيه أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبا بطين العائذي القحطاني، من جذم عبدة المشهور. ولد في بلدة الروضة القريبة من المجمعة حاضرة أقليم سدير الواقع في منطقة نجد سنة ١١٩٤، أي قبل وفاة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب باثنتي عشرة سنة.
أسرته:
نشأ في أحضان أسرة صالحة محافظة، وجهته منذ نعومته وطراوة عوده إلى طلب العلم وتحصيله وملازمة العلماء، حتى أدرك علما واسعا وهو بعدُ في ريعان الشباب، وساعده على ذلك قوة الذهن وسرعة الفهم والفطرة النقية.
شيوخه:
قرأ على العديد من علماء عصره ومن أبرزهم:
١ – الإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت١٢٤٢) .
٢ – العلامة الورع عبد العزيز بن عبد الله الحصين (ت١٢٣٧) .
٣ – الإمام الكبير حمد بن ناصر بن معمر (ت١٢٢٥) .
أعماله:
ولي القضاء في عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد (ت١٢٢٩) ثم نقله عبد الله بن سعود (ت١٢٣٤) قاضيا على عمان.
وفي عهد الإمام تركي ولاه قضاء الوشم، ثم جمع له معه قضاء سدير،
1 / 10
وفي عام ١٢٤٨هـ انتقل إلى قضاء القصيم، حتى استقال من القضاء سنة ١٢٧٠.
تلاميذه:
لم تشغله أعماله الوظيفية عن التعليم والدعوة، وهذا هو شأن العلماء حيثما حلوا وأينما سارت بهم الركاب. يبذرون في كل بلد وطئته أقدامهم طلابا يحملون العلم ويبلغونه لمن بعدهم. ومن تلاميذه:
١ – صالح بن عيسى.
٢ – عبد الرحمن بن عبد الله بن أبا بطين، ابن المؤلف.
٣ – محمد بن عبد الله بن حميد.
٤ – عثمان بن بشر صاحب التأريخ المشهور.
أخلاقه وسجاياه:
كان ﵀ زاهدا ورعا مكبا على العلم، معرضا عما سوى ذلك، وقورا دائم الصمت، باذلا نفسه للعلم والعلماء دون ملل أو تضجر، كريما سخيا قويا في الحق.
وفاته وأبناؤه:
استمر ﵀ طوال حياته داعيا ناصحا ملتزما، إلى أن توفي سنة ١٢٨٢ فانطوت بوفاته صفحة تنضح بالصلاح والتقوى والكرم.
وخلف من الأبناء الشيخ عبد الرحمن وعبد العزيز، ولكليهما عقب.
آثاره العلمية:
شارك في الكثير من العلوم وألف فيها، ومن آثاره:
١ – مختصر البدائع (١) .
_________
(١) له نسخة بخط المؤلف عند آل مانع كما ذكر ابن بسام ٢/٥٧٤.
1 / 11
٢ – حاشية على شرح المتهى في الفقه.
٣ – تأسيس التقديس (١)
٤ – الانتصار وهو كتابنا هذا.
٥ – رسالة في التجويد.
٦ – فتاوى وتحريرات نشر أكثرها (٢) .
النسخ:
تجمع لدي عند الشروع في التحقيق ثلاث نسخ، وهي كما يلي:
الأولى: نسخة خطية تقع في نحو تسع عشرة ورقة ومسطرتها ٢٥ سطرا محفوظة في مكتبة الرياض السعودية بدون رقم.
فرغ من كتابتها عبد الله بن فارس بن ناصر بن فارس بن إبراهيم آل سميح سنة ١٢٧٨يوم الأربعاء من شهر شوال، وعلق على طرتها ما نصه: مال زيد بن محمد آل سليمان. وهي نسخة تامة مصححة ومقابلة ومكتوبة في حياة المؤلف ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: وتقع في نحو إحدى وعشرين ورقة ومسطرتها ٢٥ سطرا، مكتوبة بقلم نسخي جيد مشكول أحيانا، ليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ. ويبدوا أنها كانت ضمن مجموعة إذ أن الورقة الأولى تبدأ برقم ٧٨، وقد أمدني الأخ الكريم الشيخ عبد السلام العبد الكريم بمصورتها ورمزت لها بحرف (ع) .
_________
(١) مطبوع سنة ١٣٤٤ ورأيت له نسخة خطية جيدة في مكتبة الرياض السعودية رقم ٤١١/٨٦ في نحو سبع وثمانين ورقة بعنوان: كشف تلبيس داود بن جرجيس الكذاب الأفاك الداعي إلى الإشراك ببارئ كل محسوس!.
(٢) ينظر في مصادر ترجمته" الدرر السنية" ١٢/٧٥ و"مشاهير علماء نجد"١٧٦ و"علماء نجد خلال ستة قرون" ٢/٥٦٧.
1 / 12
الثالثة: مطبوعة نشرتها دار العربية للطباعة ببيروت، بعناية الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، عن نسخة كتبها محمد بن عبد العزيز بن محمد سنة ١٣٠٥ يوم السبت ٢٤ من ذي الحجة كما هو مدون في آخر الرسالة. وفيها نقص وتحريف ورمزت لها بحرف (ط) .
العنوان:
سجل على طرة الأصل وغلاف المطبوعة: كتاب الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين.
وفي نسخة (ع): كتاب الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على من يجادل عن المشركين. وهو فرق طفيف لا يكاد يسترعي الانتباه.
ويذكر ابن بشر في عنوان المجد (القسم المخطوط) أن الذي سماه بذلك هو بعض طلبته (١) . لا المؤلف ﵀، وليس هذا ببعيد؛ فلم يكن علماء الدعوة ممن كانوا في عصره يهتمون كثيرا بوضع الأسماء لكتبهم.
التوثيق:
نص ابن بشر في عنوان المجد (القسم المخطوط) أن الشيخ عبد الله ألف كتاب الانتصار من أجل أن يكشف عن فساد الشبهة التي أثارها تلميذه داود بن جرجيس البغدادي (ت١٢٩٩) ولبس بها على الناس.
ثم ألف كتابه الكبير تأسيس التقديس فتتبع فيه دعاويه وفندها وآهال عليها التراب (٢) .
وذكره العلامة ابن قاسم في الدرر السنية (٣) .
_________
(١) "علماء نجد خلال ستة قرون" ٢/٥٦٩.
(٢) ينظر المرجع السابق.
(٣) "الدرر السنية" ١٢/٢٦.
1 / 13
منهج التحقيق:
اعتمدت نسخة مكتبة الرياض السعودية أصلا؛ لجودتها وقدمها وعارضت النسختين الأخريين بها، وأثبت ما بينها من فروق.
ولم أتصرف في النص إلا بحسب ما تمليه الضرورة من تعديل أو إضافة، مع الإشارة إلى ذلك في موضعه.
وقمت بعزو الآيات وتخريج الأحاديث والآثار، ورد النصوص إلى مصادرها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، كما فسرت ما ظننته غامضا وترجمت لغير المشهورين.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحفظ علينا ديننا ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والحمد لله حمدا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى.
كتبه
الوليد بن عبد الرحمن آل فريان
الرياض – ٢٧/٤/١٤٠٩هـ
1 / 14
نص الكتاب
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه (٢)، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا (٣) وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما كثيرا.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٤) – فلما أعلمنا الله سبحانه إنما (٥) خلقنا لعبادته، وجب علينا الاعتناء بما خلقنا له علما وعملا- (٦) وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (٧) الآية وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ (٨) . قال ابن عباس ﵄: كل ما في القرآن من الأمر بالعبادة فالمراد به التوحيد (٩) .
_________
(١) في الأصل أضيف: وبه نستعين وعليه اعتمادي، وأرجح أنه من صنع الناسخ.
(٢) (ط): ونتوب إليه. ساقط.
(٣) (ع) (ط): ومن.
(٤) سورة الذاريات آية ٥٦.
(٥) (ع) (ط):أنه إنما.
(٦) ما بينهما معلق في هامش الأصل وبجواره كلمة صح.
(٧) سورة البقرة آية ٢١.
(٨) سورة النساء آية ٣٦.
(٩) ذكره البغوي في "التفسير"١/٥٥.
1 / 23
وبذلك أرسل (١) الله جميع الرسل. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (٢) . وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ (٣) .
وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه أن يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ (٤) قال مالك وغير واحد من المفسرين: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت (٥)، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس ﵃: الطاغوت الشيطان (٦) .
قال ابن كثير: وهو قول قوي جدا، فإنه يتناول كل (٧) ما كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها (٨) . ذكره على قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ﴾ (٩) الآية.
_________
(١) (ع): أمر.
(٢) سورة الأنبياء آية ٢٥.
(٣) سورة الزخرف آية ٤٥.
(٤) سورة النحل آية ٣٦.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" ٢/٢٢.
(٦) علقه البخاري في " الصحيح" ٨/٢٥١ (فتح) قال الحافظ: وإسناده قوي، وأخرجه الطبري في "التفسير" ٥٨٣٤، ٥٨٣٥، وأبو القاسم البغوي كما في "تفسير ابن كثير" ١/٥٥٣، والفريابي، وسعيد بن منصور كما في "الدر المنثور"٢/٢٢.
(٧) علق في هامش الأصل على هذه الكلمة ما نصه: كلما. إذا كانت ظرفا كتبت (ما) معها متصلة، نحو ﴿كلما رزقوا منها من ثمرة﴾، وكلما جئتني أكرمتك. وإن كانت اسما كتبت منفصلة نحو: كل ما عندي لك، وكل ما في الدنيا فان. اهـ.
(٨) تفسير القرآن العظيم١/٥٥٣.
(٩) سورة البقرة آية٢٥٦.
1 / 24
قال النووي: قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله (١) .
وقال الجوهري: الطاغوت الشيطان وكل رأس في الضلالة، انتهى (٢) .
وما تضمنته هذه الآيات ونحوها من آي القرآن- من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره- هو معنى لا إله إلا الله.
قال ابن جرير في الكلام على معنى لفظ الجلالة قال: وروي لنا، عن ابن عباس قال: أي هو ذو الألوهية والعبودية (٣) على خلقه أجمعين (٤) .
وقال الجوهري في الصحاح: أله – بالفتح- إلاهة، أي: عبد عبادة.
قال: ومنه قولنا" الله. وأصله إلاه على وزن فعال، بمعنى مفعول؛ لأنه مألوه بمعنى معبود (٥) قال: والتأليه التعبيد، والتأله التنسك والتعبد.
قال رؤبة (٦): سبحن واسترجعن من تألهي (٧) (٨) . انتهى (٩) .
وقال في القاموس: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد/ عبادة، ومنه لفظ
_________
(١) " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" ٣/١٨.
(٢) "تاج اللغة وصحاح العربية" ٦/٢٤١٣.
(٣) في " تفسير" الطبري والسيوطي: المعبودية.
(٤) أخرجه الطبري في "التفسير" رقم ١٤١، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" ١/٢٣ وفيه بشر بن عمارة.
(٥) "الصحاح"٦/٢٢٢٣.
(٦) علق في هامش الأصل ما نصه: رؤبة هو ابن العجاج التميمي الراجز من فصحاء العرب (البصرة) أخذ عن أبيه وغيره، وعنه أخذ يحيى القطان وطائفة كثيرة، وكان لغويا علامة وقته، توفي سنة خمس وأربعين ومائة من هجرة الرسول اهـ.
(٧) علق في هامش الأصل: صدره: لله در الغانيات المده.
(٨) "الديوان"/١٦٥.
(٩) "الصحاح" ٦/٢٢٢٤
1 / 25
الجلالة، قال: وأصله إله بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا، إله (١) عند متخذه. قال: والتأله التنسك والتعبد (٢) .
وفي المصباح: ألَه- من باب تعب – إلهة بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود وهو الله سبحانه. استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله. انتهى (٣) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: الإله هو المعبود المطاع، فهو إله بمعنى مألوه.
وقال ابن القيم: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة وإكراما، وتعظيما وخوفا، ورجاء وتوكلا (٤) .
وقال ابن رجب: الإله: هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة، وخوفا ورجاء وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك إلا لله، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول (٥): لا إله إلا الله، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك (٦) .
وقال ابن هبيرة في الإفصاح (٧) قوله: شهادة أن لا إله إلا الله
_________
(١) (ع) (ط): فهو إله.
(٢) "القاموس" ٤/٢٨٠.
(٣) "المصباح المنير" للمقري١/٢٤.
(٤) نقله عنهما العلامة عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد" /٣٣ وانظر "الاقتضاء"٢/٨٤٦.
(٥) (ط):قول. ساقطة.
(٦) كلمة الإخلاص للحافظ بن رجب /٢٣.
(٧) طبع قطعة من أوله في شرح حديث (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) استوعب مجلدين كبيرين.
1 / 26
تقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (١) وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها، فقد قال الله تعالى- ما أوضح به- أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد لك (٢) بما يعلمه في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (٣) .
قال: واسم الله: مرتفع بعد إلا، من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه.
قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث فإنه لا يكون إلها، فإذا قلت: إلا إله إلا الله. اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده.
قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. انتهى.
وقال أبو عبد لله القرطبي في التفسير: إلا إله إلا هو. أي: لا معبود إلا هو (٤) .
وقال الزمخشري (٥): الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، اسم (٦) يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق (٧) .
_________
(١) سورة محمد آية ١٩.
(٢) (ع): لك. ساقطة.
(٣) سورة الزخرف آية ٨٦.
(٤) نقله العلامة عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد"/٣٣.
(٥) أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. لغوي من كبار المعتزلة ت٥٣٨. "اللسان"٦/٤.
(٦) (ط): اسم. ساقطة.
(٧) "الكشاف" ١/٣٦.
1 / 27
وقال البقاعي/: لا إله إلا الله. أي: انتفى انتفاءا عظيما أن يكون معبود (١) بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. انتهى (٢) .
وجميع المفسرين يفسرون الإله بالمعبود. والمشركون يعرفون ذلك؛ لأنهم أهل اللسان. فلما طلب منهم النبي ﷺ أن يقولوا: لا إله إلا الله. قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (٣) .
وهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، رب كل شيء ومليكه؛ كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
والله سبحانه فرض على عباده معرفة معنى: لا إله إلا الله، وأن يعلموا أن لا إله إلا هو (٤) . قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ .
وترجم البخاري على الآية فقال: باب العلم قبل القول والعمل (٥) .
أشار (٦) إلى أن العلم بمعنى: لا إله إلا الله، أول واجب. ثم بعد ذلك القول والعمل.
وقال الله تعالى: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ (٧) لم يقل: ليقولوا: إنما هو إله واحد (٨) .
_________
(١) الأصل و(ط): معبودا.
(٢) نقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد"/٣٤.
(٣) حكى الله ذلك عنهم في سورة ص آية ٥.
(٤) (ع): الله.
(٥) صحيح البخاري ١/١٥٩ "فتح".
(٦) (ط) إشارة.
(٧) سورة إبراهيم آية ٥٢.
(٨) ما بينهما ساقط من (ع) و(ط) .
1 / 28
وقال: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ (١) أي: واعلموا أن لا إله إلا هو.
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (٢) قال المفسرون: إلا من شهد بلا إله إلا الله، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم (٣) .
وقد قال النبي (٤) ﷺ: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" (٥) .
واستدل العلماء بهذه الآيات ونحوها: على أن أول واجب على الإنسان معرفة الله.
ودلت هذه الآيات (٦): على أن آكد الفرائض العلم بمعنى لا إله إلا الله، وأن أعظم الجهل نقص العلم بمعناها؛ إذ كان معرفة معناها آكد الواجبات، فالجهل (٧) بذلك أعظم الجهل وأقبحه.
ومن العجب أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى هذه الكلمة نفيا وإثباتا، عاب ذلك، وقال: لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم!
فيقال له: بل أنت مكلف بمعرفة التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وأرسل جميع الرسل يدعون إليه، ومعرفة ضده وهو
_________
(١) سورة هود آية١٤.
(٢) سورة الزخرف آية ٨٦.
(٣) ينظر "تفسير الحافظ ابن كثير" ٧/٢٢٩،و"تفسير القرطبي"١٦/١٢٢.
(٤) النبي: ليست في (ع) و(ط) .
(٥) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم ٢٦ وأحمد في "المسند"١/٦٥، ٦٩ والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم ١١١٤، ١١١٥ وابن أبي شيبة في "المصنف" ٣/٢٣٨،والحاكم في "المستدرك"١/٣٥١،والدولابي في "الكنى"١/١٢٩،وابن حبان والبيهقي كما في "الدر المنثور"٦/ ٦٣ من حديث عثمان بن عفان ﵁.
(٦) ما بينهما ساقط من (ع) .
(٧) (ع): والجهل.
1 / 29
الشرك الذي لا يغفر. ولا عذر لمكلف في الجهل بذلك.
ولا يجوز فيه التقليد؛ لأنه أصل الأصول. فمن لم يعرف المعروف وينكر المنكر فهو هالك، لاسيما أعظم المعروف / وهو التوحيد، وأكبر المنكرات وهو الشرك.
قال رجل لعبد الله بن مسعود ﵁: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر! فقال ابن مسعود: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر (١) .
وبمعرفة التوحيد يعرف أهله؛ كما قال علي ﵁: اعرف الحق تعرف أهله.
وأما الإقرار بتوحيد الربوبية: وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقر به المسلم والكافر، ولابد منه. لكن لا يصير به الإنسان مسلما، حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم عن الشرك وأهل الجنة من أهل النار.
وقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية. ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الإلهية، قال سبحانه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ الآية (٢) .
_________
(١) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" ١/١٣٥ عن طارق بن شهاب قال: جاء عتريس ابن عرقوب الشيباني إلى عبد الله، فذكره وهو عنده بلفظ:هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر. قال: بل هلك من لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر.
(٢) سورة يونس الآيتان ٣١، ٣٢.
1 / 30
قال البكري الشافعي (١) في تفسيره على هذه الآية: إن (٢) قلت: إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟. قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام، عبادة الله والتقرب إليه. لكن في طرق مختلفة:
ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة؛ لعلظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى.
وفرقة قالت: الملائكة ذوو وجاهة عند الله، فاتخذنا (٣) أصناما على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى.
وفرقة (٤) قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة؛ كما أن الكعبة قبلة في عبادته.
وفرقة اعتقدت: أن لكل صنم شيطانا موكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله (٥) .
وقال ابن كثير عند قوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ (٦): إنما يحملهم على عبادتهم؛ أنهم عمدوا إلى أصنام (٧) اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم،
_________
(١) لم أجد في "طبقات المفسرين" أحدا بهذا اللقب- وهو شافعي المذهب- غير اثنين هما: محمد بن عمر بن الحسين، فخر الدين الرازي، من كبار المتكلمين، وأئمة الأشاعرة المخالفين لطريقة السلف ت٦٠٦،وعلي بن يعقوب بن جبريل، وهو ممن أنكر على شيخ الإسلام ابن تيمية لما دخل مصر وقام عليه وآذاه ت ٧٢٤ ينظر "طبقات المفسرين " للداوودي ١/٤٤٠، ٢/٢١٥.
(٢) (ط): إذا.
(٣) الأصل: اتخذنا (ط): اتخذناها.
(٤) (ط): فرقة. ساقطة.
(٥) لم أعثر عليه في "مفاتيح الغيب" للرازي.
(٦) سورة الزمر آية٣.
(٧) في جميع النسخ: عبدوا الأصنام. والمثبت من التفسير.
1 / 31
فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم وما ينوبهم/ من أمر الدنيا.
قال قتادة، والسدي، ومالك- عن زيد بن أسلم، وابن زيد -: ﴿إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [أي] (١): ليشفعوا لنا ويقربونا عنده [منزلة] (٢) .
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ (٣) . ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (٤) وقال: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (٥) قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون معه غيره (٦) !!
ففسروا (٧) الإيمان في هذه الآية: بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك – بعبادتهم غير الله- وهو توحيد الألوهية (٨) .
فلما تقرر معنى: الإله، وأنه المعبود. تعين علينا معرفة حقيقة العبادة وحدها.
فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به (٩) شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
_________
(١) زيادة من (ع) و(ط) والتفسير.
(٢) زيادة من التفسير٧/٧٥.
(٣) سورة الزخرف آية٩.
(٤) سورة الزخرف آية ٨٧.
(٥) سورة يوسف آية ١٠٦.
(٦) أخرجه الطبري في "التفسير" ١٦/٢٨٦-٢٨٩.
(٧) (ع): ففسر.
(٨) أي: في زعمهم.
(٩) (ع): به الإنسان.
1 / 32