الثالثة: مسألة الرؤية، وأنها جائزة، وأن المؤمنين يرون ربهم
في الجنة بلا كيف ولا تشبيه. ولا تحديد، كما جاء في الكتاب والسنة، ودل عليه العقل أيضا، وإنما ختمنا الكتاب بمسألة الرؤية، لأنها أعلى العطايا وأسنى الكرامة من الله تعالى لعباده المؤمنين، وليس فوقها مزيد، بل هي الزيادة المذكورة في قوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " .
مسألة
اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الخالق وحد، لا يجوز أن يكون خالق سواه، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره؛ فهي منه خلق وللعباد كسب، على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وأمثال هذه الآية من الأدلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب، فالواحد منا إذا سمى فاعلا فإنما يسمى فاعلا بمعنى أنه مكتسب، لا بمعنى أنه خالق لشيء. وقالت المعتزلة، والنجارية، والجهمية، والروافض: إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد، وإن كل واحد منا ينشىء ما ينشىء ويخلق ما يفعل، وليس لله تعالى على أفعالنا قدرة جملة، ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد وسوء المقال.
والدليل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وبطلان قول من خالفهم من أهل الزيغ والبدع الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل؛ فالدليل من الكتاب أكثر مما يحصى، لكن أذكر منه ثلاثة تنبه اللبيب على بقيتها إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم، كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم، وهذا من أوضح الأدلة من الكتاب.
الثاني: قوله تعالى: " خالق كل شيء " ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعا، وإن اختلفنا في خالقها، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق، فدل على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا. قلنا: قد احترزنا بحمد الله تعالى عن هذا السؤال بقولنا: إنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة؛ بل هي صفة الخالق تعالى قديمة بقدمه موجودة بوجوده. قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.
وجواب آخر يبطل هذا السؤال وهو: أنك تقول: إن الله تعالى مخاطب، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب، ألا ترى أن الواحد منا إذا قال دخلت الدار فضربت من فيها، أو أخرجت من فيها، أو أعطيت من فيها لا يدل ذلك على أنه دخل تحت الخطاب، بأن يكون ضرب نفسه، ولا أخرج نفسه ولا أعطى نفسه، لأنه مخاطب، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب وكذلك قوله تعالى: " خالق كل شيء " هو مخاطب، فلا يدخل تحت الخطاب بذاته ولا بصفاته جل عن ذلك وتعالى، كما قال: " الواحد القهار " قهر الكل ولم يدخل في القهر ذاته وصفاته. فافهم التحقيق لتدفع به كل بدعة وتمويه من أهل البدع إن شاء الله.
الثالث: قوله تعالى: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون " والدلالة من هذه الآية من أوجه: أحدها: أنه قال تعالى: " الله الذي خلقكم " وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: " ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " يعني ثم خلق أرزاقكم، وعند المخالف أن العبد يخلق أفعاله ورزقه، فهو خلاف ما أخبر الله تعالى به من كونه خالقا لنا ولأرزاقنا.
الوجه الثاني: من الدلالة: أنه قال: " ثم يميتكم ثم يحييكم " فكما لا يقدر أحد أن يخلق موته ولا حياته، فكذلك لا يقدر أن يخلق فعله ورزقه؛ من حركة ولا سكون ولا غير ذلك.
الثالث: سبحانه وتعالى نزه نفسه عن عقدهم وخبثهم إذ أضافوا فعل شيء وخلقه إلى غيره، فقال " سبحانه وتعالى عما يشركون " ثم أكد ذلك بعده بمواضع فقال: " هل من خالق غير الله " سبحانه وتعالى. وقال: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " .
وأما الدليل من السنة فكثير أيضا، غير أني أذكر منه خبرين ننبه العاقل الفطن على الاستدلال بأمثالهما من السنة:
Bogga 56