فقال حقي بك: «سعيد بك صديق مدحت باشا لا يزال حيا؟»
فقال الرئيس: «نعم، ونحمد الله على ذلك. ولعل بعضكم لا يدري مهمة هذا الأخ الجليل، ولهذا أقصها عليكم باختصار: إن سعيد بك صديق مخلص قديم، وكان أكثر الأحرار التصاقا بأستاذنا مدحت باشا، وشاركه جهاده وأكثر مصائبه ونكباته حتى رافقه أخيرا إلى منفاه في الطائف، وهو يتعشق الدستور الذي ذهب مدحت ضحيته. وقد قص علي أنباء الفظائع التي قاساها مدحت في منفاه من الجوع والتعذيب إلى أن انتهى الأمر بقتله على مشهد منه بأيدي ضابطين وسبعة من الجنود الخونة، قتلوه خنقا وقطعوا رأسه وأرسلوه في صندوق إلى يلدز كتبوا عليه أنه يحتوي عاجا يابانيا وأدوات صناعية لجلالة السلطان، قص علي سعيد بك ذلك وهو يبكي. إن عبد الحميد قتل مدحت ولكنه لم يقتل روحه وتعاليمه، ووجودنا هنا وسعينا في سبيل الدستور إنما هو نسمة من تلك الروح الطاهرة. وليس ذلك كل أفضال مدحت، فإنه علمنا تجنب الخطر وعدم الثقة بوعود الطغاة. وقد بعث إلى الأحرار العثمانيين بوصية على يد الأخ سعيد بلغنا إياها، وقال إن هناك وصية مخطوطة كتبها المرحوم وهو في قصر مالطة يوم قبضوا عليه وأخذوا في محاكمته تلك المحاكمة الظالمة، وكأنه أحس بالخطر القريب وهو هناك فاغتنم انفراده وكتب وصية للأحرار ووضعها في مخبأ في قصر مالطة، على أن يحملها معه ويدفعها إلى بعض خاصته بعد خروجه من ذلك القصر، فأخرج فجأة ولم يمهل ريثما يأخذ الوصية فبقيت هناك، وظن نفسه يعود بعد تقلب الأحوال، فلما يئس من ذلك وأحس بقرب الأجل أسر إلى سعيد خبر الوصية ودله على مخبئها في قصر مالطة، وأوصاه أن يتلوها على الأحرار العثمانيين حيثما وجدوا. فلما عاد سعيد من الطائف أخذ يبث أفكار مدحت سرا، وأنتم تعلمون أكثرها وأصبح يترقب الفرص للحصول على الوصية، فلم يستطع دخول يلدز بالحيلة إلا منذ بضع عشرة سنة، ونحن في انتظار رجوعه إلى الآن! فأنا أعد خبر خروجه فوزا لنا وبشارة تدل على قرب النجاة من أسر الاستبداد وإطلاق روح الدستور.»
وكان الجميع سكوتا لأن هذا الحديث كان جديدا على مسامع أكثرهم، حتى رامز لم يكن يعرف من هذه التفاصيل إلا قليلا. فلما فرغ الرئيس من كلامه نهض أنور بك - وكان في أثناء الحديث غارقا في التفكير - وقال: «هل يطول بنا انتظار الأخ سعيد بك؟»
فقال رامز: «أرجو أن يكون هنا الليلة أو غدا، ولعله تأخر ليأتي بالوصية معه، هذا ما خطر لي الآن على أثر ما سمعته فقد رأيته يرغب في البقاء هناك يوما آخر، وقد أوصيت أحد الجيران أن يدله على مجتمعنا إذا أراد أن يأتي.»
فقال: «أما وقد دنا مجيئه ومعه وصية مدحت فلنؤجل حكمنا في هذا الأمر حتى نتلو الوصية، ولا شك أننا سنجد فيها أمورا مهمة.»
وبينما هم في هذه الحال إذ سمعوا قرع الباب الخارجي فأنصتوا، وبعد برهة قرع باب القاعة ففتح الحارس فدخل أحد الحراس يقول: «إن أجنبيا لا أعرفه يريد الدخول فلم نأذن له، فطلب أن يرى الأخ رامزا.»
فتأكد الرئيس أن القادم سعيد بك فأذن لرامز في الذهاب لاستقدامه فخرج، ولبث الجمع في انتظاره على أحر من الجمر. وبعد قليل عاد رامز ومعه أبوه، فأشار الرئيس إلى الجميع بالنهوض إجلالا له، وقال الرئيس: «إننا نقف لك ترحابا بك وإقرارا بفضلك في خدمة الحرية، لأنك رسول أستاذنا مدحت.»
فحياهم ووقف، فأشار إليه الرئيس أن يقعد على كرسي بجانبه احتفاء به، فقعد والدهشة ظاهرة في طلعته، وابنه رامز ينظر إليه ويتأمله فرأى فيه الصورة التي يعرفها ولم يلحقها إلا تغيير قليل. ولما استقر الجلوس بسعيد سكت الجميع في انتظار ما يقوله، أما هو فمكث هنيهة صامتا مطرقا كأنه تهيب تلك الجلسة أو كأنها أذكرته أمورا محزنة، ثم التفت إلى صورة مدحت المعلقة بالحائط وتفرس فيها طويلا والأعضاء ينظرون إليه كأن على رءوسهم الطير، فلحظوا قطرات من الدمع تتساقط على لحيته وهو يتجلد، فأراد الرئيس أن يشغله عن تذكاراته المحزنة فقال: «إن فرحنا بقدومك كثير، ولا سيما بعد نجاة أخينا رامز من خطر القتل، ولا شك أنك تشعر بما في قلوبنا من البهجة بهذا اللقاء، بل نحن نستبشر خيرا بقدومك يا حامل رسالة أبينا وقدوتنا شهيد الحرية. لا ينبغي أن تحزن عليه فإنه لا يزال حيا بيننا حتى نأخذ بثأره ونتم عمله فيبقى ذكره خالدا ... نحن في انتظار الوصية المكتوبة، هل وقفت عليها؟»
فتنهد وقال: «نعم إنها معي، وقد سجنت من أجلها أعواما، ولكن السجن حال بيني وبينها وهي أقرب إلي من حبل الوريد، لأن أهل يلدز ارتابوا في مقاصدي فسجنوني وعذبوني لأطلعهم على غرضي من وجودي في قصر مالطة بلا مناسبة فلم أجبهم، ولم أشأ أن أحتال في الخروج دون الوصول إلى هذه الوصية، حتى أتيح لي النجاة أمس مع ولدي كما أخبركم، فطلبت البقاء هناك يوما آخر فبقيت بلا رقيب، فأخرجت الوصية من مخبئها وخبأتها بين أثوابي بحيث يستحيل الاطلاع على مكانها.»
قال ذلك وأخرج أوراقا تآكلت أطرافها وتهرأت لطول دفنها في التراب، ثم دفعها إلى الرئيس فشخصت الأبصار وتطاولت الأعناق ترقبا لسماع ما فيها.
Bog aan la aqoon