Inqilab Cuthmani
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
Noocyada
ومن الغلطات السياسية في صدارة محمود نديم باشا، إصدار الفرمان بفصل الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين أكسارخوس للبلغار مستقلا عن بطريرك الروم في القسطنطينية، وكان ذلك بمساعي الجنرال أغناتيف حبيب محمود نديموف باشا للتوصيل إلى أحداث دولة للبلغار، مع أن الباب العالي كان يعتبر جميع هذه الأمم الصغيرة - كالبلغار والصرف والأفلاخ والبغدان والجبل الأسود والهرسك روما - تابعين لبطاركة القسطنطينية؛ لاشتراكهم جميعا في الدين الأرثوذوكسي، ومن الغلطات المالية أيضا، إعطاء المثرى النمسوي اليهودي الشهير - وهو البارون هرش - امتيازا بسكة حديد الروم إيلي المعروفة بسكك الحديد الشرقية، وإضرار الخزينة والأمة من وراء ذلك ضررا كبيرا، وفي أثناء ذلك ظهر مدحت باشا في مسند الصدارة.
صدارة مدحت باشا الأولى
ولد مدحت باشا في القسطنطينية سنة 1822م، ووالده حاج علي أفندي، أصله من روسجق التي كانت مركز ولاية الطونة «بلغارستان» على ضفة نهر الطونة «الدانوب» اليمني، ولما كان من صغار الموظفين، لم يستطع تعليم ابنه غير مبادئ العلوم وحسن الخط، المعدود في ذلك الدور من أكبر العلوم وأعمها للدخول في الوظائف والترقي فيها، وأدخله على حداثة سنه قلم الصدارة فتخرج في أقلام الباب العالي، وتعلم بالمشاهدة والتجربة والاختبار، وعين مأمورا في الولايات ومكث سنتين في دمشق الشام، وترقى إلى أن صار باشكاتب في مجلس «والا» وهو شورى الدولة، وذهب مرة ثانية إلى دمشق وحلب للتحقيق عن القبرصلي محمد باشا، ولفت باستعداده واجتهاده نظر رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا ورفعت باشا ناظر الخارجية إليه، فأجلسه معه رفعت باشا ليسمع المحاورة التي دارت بينه وبين البرنس منجيكوف مندوب دولة روسيا، وذلك قبل حرب القرم، فاطلع مدحت باشا حينئذ على السياسة الخارجية.
وبعد وفاة رشيد باشا سنة 1858م تولى الصدراة عالي باشا، فأذن لمدحت بالذهاب إلى أوروبا مدة ستة أشهر، فذهب إلى باريس ولوندره وبروكسل وڨيينا، وشاهد انتظام الإدارة ومحاسن المدينة والترقيات العصرية، ومازال يرتقي في الوظائف حتى صار واليا على ولاية الطونة - بلغارستان الآن - فأجرى فيها إصلاحات كثيرة، وفتح مجلس الأيالة، وهو المجلس العمومي الذي فتحه راشد باشا في سوريا، ثم عين واليا على ولاية بغداد ومشيرا لعساكرها؛ فسكن عصيان نجد؛ فأهداه السلطان عبد العزيز خان سيفا مكافأة له على خدماته، وإذ كان الصدر الأعظم محمود نديم باشا كثير العزل والنصب والتبديل، نقل مدحت باشا من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنة، فمر بكرسي السلطنة وطلب مقابلة الحضرة السلطانية، وأراها طرق الخلل وسوء الإدارة وعاقبة الأمر، فعزل محمود نديم من الصدارة وتولاها مدحت باشا، ولكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة أشهر، وكان سبب عزله - على ما روي - أن إحدى سراري القصر بعثت إليه مع الطواشي طالبة تعيين أحد خدامها قائمقام في أحد الأقضية؛ فأجابه مدحت: «سلم على الخانم وقل لها أن تلتمس هي بنفسها من أفندينا ذلك.» واشتد غضبه من مداخلة السراري وتتابع رجائهن.
صدارة نديم باشا الثانية
كثر تبديل الصدور بعد عزل مدحت حتى بلغوا نحو العشرة في خلال سنة أو خمسة عشر شهرا، ثم عاد إلى الصدارة محمود نديم باشا، وكان العود غير أحمد، فزاد الارتكاب، وبيعت الرتب والنياشين، كما بيعت الوظائف بالمزاودة، بحيث أصبح يحتجنها الذي يزيد في الثمن، واختلت الموازنة المالية، حتى قضت بإعلان الإفلاس في 5 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1875، وطمع العدو في البلاد، فأوجب ذلك هيجان تركيا الفتاة وعقلاء الأمة، وكان التجسس غير معروف في ذلك الوقت، وكان للجرائد حرية في الكتابة والانتقاد، فشرعت جريدة «وقت» التركية في نشر الحكايات والأساطير عن ملوك الصين، واستنتاج الأمثال والمواعظ من انقراض ملكهم، والتعريض بذلك لوزارة محمود نديم باشا، وأخذ فريق من الناس يطوفون على المجالس والدواوين والأندية العامة، ويقصون أنواع المظالم والارتكاب وسوء الإدارة، فهاجت الأفكار العمومية ولا سيما الصوفتاوات؛ وهم طلاب العلوم الدينية البالغ عددهم في جوامع الأستانة نحو خمسة عشر إلى عشرين ألف طالب.
هياج الصوفتاوات وصدارة رشدي باشا
اجتمع من هؤلاء الطلاب زهاء خمسة أو ستة آلاف طالب، وهجموا على الباب العالي في 22 مايس/مايو سنة 1876، وذهب آلاف منهم إلى سراي طولمه باغجه مقر السلطان عبد العزيز، فشكوا إليه، طالبين عزل محمود نديم وتولية محمد رشدي باشا، فأجيبوا إلى ذلك، وصدرت الإرادة السنية بتشكيل الوزارة، وتولية محمد رشدي باشا الصدارة، وحسين عوني السرعسكرية، وقيصر لي أحمد باشا نظارة البحرية، وراشد باشا الذي كان واليا على سوريا نظارة الخارجية، وخير الله أفندي مشيخة الإسلام.
خلع السلطان عبد العزيز
كان حزب مدحت باشا من الأحرار مؤلفا من نامق كمال بك، وضيا بك، ورؤوف بك، وإسماعيل بك، وهؤلاء لم يرتقوا إلى رتبة الباشوية، وأما الذين ارتقوا منهم إلى هذه الرتبة بعد ذلك فهم: حسن فهمي باشا، وشاكر باشا، وسعد الله باشا، ورائف باشا، ورفعت باشا. وكانوا من الوزراء، فلما تولى حزب تركيا الفتاة زمام الأمر، واستولى على المالية، والقوة البرية والبحرية والشرعية؛ خلعوا السلطان عبد العزيز في 17 جمادى الأولى سنة 1293 و30 مايس/مايو سنة 1876 بفتوى من شيخ الإسلام، وأجلسوا ابن أخيه السلطان مراد خان، ففرح به الناس واستبشروا، وكان السير هنري إليوت سفير إنجلترا أشد السفراء سرورا، والجنرال أغناتيف سفير روسيا أكثرهم غما، وهو حبيب محمود نديم باشا والمشير عليه بتلك السياسة العوجاء، ونقل السلطان عبد العزيز سراي طولمه باغجه إلى سراي طوب قبو المقابلة لها على ساحل البحر، ثم نقل بناء على طلبه إلى سراي جراغان المجاورة لطولمه باغجه على ساحل المضيق «البوغاز»، وبعد خمسة أيام وقع الاغتيال، واختلف فيه؛ هل كان بطريق الانتحار أو القتل عمدا، فإن الذين كشفوا على الجثة وجدوها في الطبقة السفلى من السراي على سجادة بقرب الباب، ففي إنزالها من الطبقة العليا المعدة للسكنى إلى الطبقة السفلى شبهة، وعلى فرض ثبوت الجناية: فمن عساه يكون المتهم بها؟ هل حريم السراي وطواشيتها الذين تكثر بينهم الدسائس ويصعب التحقيق؟ أو مدحت باشا وحزبه الذين لا مأرب لهم بذلك؟ وقد توصلوا إلى مأربهم بدون إراقة دم، واستحقوا إجلال العالم لهم من عثمانيين وأوروبيين، وهم أعقل وأدهى من أن يلوثوا عملهم العظيم بدم جناية ودسيسة مثل هذه!
Bog aan la aqoon