كانت هنادي هي أملها الوحيد بعد أن راح ابنها، زوجها، وكل من كان لها.
ترمق ابنتها بكره، سلبت منها ابنتها الأمل، نهشت حلمها الباقي، كسرت قلبها وزادت من العبء حتى انقصم ظهرها، خانت أمها وكذبت عليها، آه يا هنادي تفعلين ذلك بأمك التي ماتت من أجل أن تكوني امرأة محترمة، لو أنك اعترفت لأمك بالحقيقة.
فتحت هنادي جفونها، رأت النظرة في عيني أمها فارتعدت، أيمكن أن تضربها أمها بالشومة فوق رأسها كما فعلت مع أبيها؟ كانوا ينادونها في السجن سعدية القتالة، تعتكر عيناها أحيانا وتطل منهما هذه النظرة القاتلة المرعبة. - صاحية يا هنادي؟ - أيوه يا أمي. - ليه تخبي عن أمك الحقيقة؟ - خايفة يا أمي. - خايفة من مين؟ - خايفة منهم؟ - مين هم؟ - مش عارفة.
انتقلت سعدية وابنتها من الغرفة في الزقاق إلى الخيمة في ميدان التحرير، لم تعد قادرة على تسديد إيجار الغرفة، لم تعد قادرة على مواصلة الذهاب يوميا إلى بيت الأستاذة، جاءت الأستاذة إلى الخيمة، تحمل لهما الطعام والفاكهة لكن سعدية تقول لها: لا يمكن أن آكل إلا من عرق جبيني يا أستاذة. - إنتي بتشتغلي يا سعدية وده حقك. - أنا مش قادرة أشتغل وبنتي عيانة. - بكرة هنادي تخف وتبقى زي الحصان. - ربنا يسمع منك يا أستاذة. - الدوا ولع نار يا سعدية. - كل الأسعار ولعت. - خدي السلفة دي. - أنا لسه باسدد السلفة اللي فاتت. - إنتي واحدة من العيلة يا سعدية. - كتر خيرك. - وهنادي زي بنتي داليا، الاتنين مولودين في السجن مش فاكرة؟ - أيوه فاكرة يا أستاذة. - الدنيا برد في الخيمة. - الخيمة أدفا من البيت. - أيوه صحيح. - الناس كتير حوالينا كأننا عيلة واحدة. - داليا عاوزة تعيش معاكم في الخيمة. - معانا بنات كتير من عمرها وعمر هنادي. - المظاهرات جمعت ناس كتير. - تعالي الخيمة إنتي كمان يا أستاذة. - كفاية علينا المظاهرات أنا وشاكر. - إنتو عملتو خير كتير، ربنا يحميكم يا رب. - لكن الخيمة حلوة ودافية يا سعدية. - بوجودك يا أستاذة. - فاكرة أيام السجن يا سعدية؟ - كانت حلوة، أحلى من عيشة الزقاق.
وتضحك فؤادة وسعدية كأنهما صديقتان حميمتان، كما كانتا تضحكان في السجن، الأسفلت تحت الخيمة يشبه الأسفلت في السجن، تجلسان متجاورتين فوق الأرض لا شيء يفرق بينهما، إلا أن فؤادة ترتدي بالطو من الصوف المتين وسعدية لا ترتدي بالطو.
قبل أن تغادر الخيمة خلعت فؤادة البالطو، وغطت به هنادي الغارقة في النوم.
فتحت هنادي جفونها في الصباح، عيناها حمراوان تتطلعان إلى قطعة من السماء تطل من باب الخيمة، تسمع الهتاف يدوي في الميدان، يسقط النظام.
سخونة شديدة تتدفق من قلبها إلى عنقها إلى رأسها، وبرودة شديدة تجعلها تنتفض مع العرق الغزير الذي يجري إلى قدميها، تحس بأنهما شيء خارج جسدها، أمها في جوارها تغطيها بالبالطو الصوف وبشالها الأخضر، تدلك قدميها المثلجتين حتى يجري فيهما الدم. - آه يا بنتي لو تقولي الحقيقة يمكن ربنا يشفيكي.
كانت هنادي تخاف على أمها من الحقيقة، لكن هتاف الملايين بأنفاسهم الساخنة المحمومة، كأنما أذابت القفل الحديدي في رأسها، وامتدت السخونة من رأسها إلى صدرها وبطنها حتى الجرح النازف أسفل البطن.
عادت إليها ذكرى اليوم المشئوم حين كانت واقفة في المطبخ تصنع كوبا من اليانسون لشاكر بيه، كانت الأستاذة فؤادة في الإسكندرية مع ابنتها داليا في إجازة نصف السنة ولن تعودا إلا نهاية الأسبوع، وكانت أمها سعدية تعاني الوجع في عظام ظهرها، فأرادت أن تأخذ إجازتها السنوية، أرسلتها أمها بدلا منها لتنظف البيت وتطبخ البازلاء التي يحبها البيه، وتكوي ملابسه وجواربه.
Bog aan la aqoon